تفكيكُ جامعة الدول العربية: بيَدِها لا بيَد عَمْرو

جمال محمد ابراهيم

حرير- انقضت في شهر سبتمبر/ أيلول الجاري 33 عاماً على تقديم الشاذلي القليبي استقالته من منصبه أمينا عاما لجامعة الدول العربية، وهي الاستقالة الأولى والأخيرة في تاريخ الجامعة، منذ إنشائها عام 1945. جاء فيها: (… الأمر بلغ اليوم ذروة الخطورة. ولذلك قرّرتُ أن أعلن قلقي على أمننا القومي من المخاطر المحدقة به، وأنهي الاضطلاع بمسؤوليتي كأمينٍ عام لجامعة الدول العربية ، ذلك أنّه كان لي أمل، حتى هذه الأيام الأخيرة، في إمكان الحلّ السـلمي رغم الصعـوبات. ولكن اتضحَ ليَ الآن أنّ هذا الحلّ لم يعد مُجدياً حتى لو تمَّ الاهتداء إليه، وقبلتْ به جميع الأطراف العربية المعنية، والسبب هو إصرار جهات أجنبية على استعمال القوة أولاً وأساساً للقضاء على قوّة عربية بإمكانها أن تحدّ من أطماع إسرائيل بالتوسّع والهيمنة على المنطقة).

كانت استقالة الأمين العام مسبّبة بعجز الدول العربية عن حلِّ أزمة غزو العراق الكويت بأيد عربية، وتنمّرتْ الدول الكبرى بقيادة الولايات المتحدة لإجبار العراق بالقوة العسكرية الدولية على إنهاء غـزوه. لم تفلح مساعي جامعة الدول العربية، وانتـهى الأمر في حرب الخليج الأولى إلى تحجيم قدرات العراق السياسية والاقتصادية والعسكرية إلى حدود العجز.

(2)

كان من البديهي أن تعمل جامعة الدول العربية، وفق ميثاقها التليد، على حماية الدول الأعضاء في منظومتها، فتضمن أمنها وسيادتها واستقرارها، مثلما ظلّ دورها في مختلف الأزمات التي مرّتْ بها بعض الدول العربية، ولعل استقالة أمين عام الجامعة كانت بسبب العجز عن القيام بذلك الدور. ولكن، وبالمضاهاة، تبرز الحرب الدائرة في السودان منذ خمسة أشهر سـؤالاً مُلحّاَ: أين دور جامعة الدول العربية في حلّ أزمة تلك الحرب، سِوى ما نرصد من جهد لفظي لا يسمن ولا يغني مِن جوع؟ ولكن يظلّ السؤال المؤسـي: أيكون لضعف الاهتمام هذا صلة بمكانة عضوية دولة السودان وموقعها في الجامعة، بما يشي بوجود تراتبية للدول الأعضاء، فيكون الاهتمام للأهمّ ثمّ إلى الأقلّ أهمية؟

(3)

من شواهد التاريخ أنّ دولة السّودان، وعلى اختلاف الأنظمة التي أدارتْ أحوالها، ظلتْ حاضرة في أغلب المساعي التي بذلتها جامعة الدول العربية تجاه حلّ كلّ ما نشأ من نزاعاتٍ بين الدول العربية، أو من صراعات دولها مع دولٍ أخرى. شارك السودان بقواتٍ عسكرية في الفصل بين القوات العراقية والكويتية في عام 1961، تنفيذاً لقرارات جامعة الدول العربية. وتشهد الحقائق التاريخية مشاركة السودان بفعالية محدودة خلال حرب يونيو 1967، ثم في حرب أكتوبر 1973. وتشهد تلك الحقائق للسودان مشاركة قواته العسكرية ضمن قوات الردع العربية المشتركة التي أجازت تكوينها القمّة العربية عام 1976، لوقـف الحرب الأهلية في لبنان، مثلما كان حضـورا قـوياَ في حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران.

لا ينكر عربيٌّ واحد ذلك الدور التاريخي الذي لعبته دولة السودان في استضافة القمة العربية التي رفعت رأس الأمة العربية عالياً بعد هزيمتها في حرب 1967، وتشهد لاءات الخرطوم التاريخية عظمة الأداء السوداني لإنفاذ المقاطعة النفطية على الدول الغربية، وإقـرار عوْن الدول العربية النفطية البلـدان العربية الشقيقة المتأثرة بالحرب، إضافة إلى الالتزام القـوي بقرار “لا صلح لا اعتراف لا تفاوض” مع دولة إسرائيل.

(4)

الحرب التي أشعلها السودانيون في بلادهم ، وإنْ بدتْ، في شكلها الظاهري، قتالاً بين جماعات شعب واحد وفي بلدٍ واحد، لكنها، في حقيقة الأمر، معارك قتالية، تشارك في إشعال نيرانها أصابعُ غير سودانية، بالتحريض تارّةً، وبالدّعم بالسلاح تارّات أخـرى. وإنْ لاحظنا تعدّد المساعي الداخلية من كيانات سياسية وعسكرية في السودان، وما رافقها من مساعٍ خارجية جاءتْ من كياناتٍ إقليمية أو أطرافٍ دولية، فإنّ المسعى العربي الذي يتوقع أن يصدر عن جامعة الدول العربية، من دون كل المساعي، لا يظهر للعيان، فيا تُرى، ما سبب ذلك؟

مع كامل التقدير للنيّات الحسنة من الاتحاد الأفريقي، ومن المنظمة الحكومية للتنمية (الإيقاد)، بحكم عضوية السودان التاريخية فيهما، إلا أن للسودان أيضاً عضوية تاريخية راسخة منذ عام 1956 في جامعة الدول العربية، وما تستلزمه تلك العضوية من واجبات ومن حقوق.

(5)

للسودان انتماء أفريقي وعربي ينبغي أن يكون متوازناً لاعتباراتٍ قد لا يتسع المجال لذكرها، إلا أن الأنظمة التي تولّت إدارة حكم السودان في العقود الماضية أخفقت في تحقيق ذلك التوازن المرجوّ بين مكوّنات أمّة سودانية لا تزال هويّتها قيد التشكّل والإدماج، وفق تفاعلاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ وثقافية معقّدة. من أسفٍ، الفشل في إدارة ذلك الوضع المُعقـد أفضى بالبلاد إلى صراعات وانقسامات، منها انفصال جنوب السودان إلى دولةٍ خرجت من رحم السـودان القديم. الخشية أن تتواصل متوالية الانقسامات والتشظّي على خطوطٍ طائفية وإثنية، ولن تقف بعدها عند حدود الجغرافيا ولا التاريخ. المبادرات الإقليمية والدولية، إلى جانب المبادرات من أطراف ثنائية أخرى، هدفت جميعها إلى إيقاف الحرب في السودان. إنها مساعٍ، برغم جدّيتها، تستبطن بطبيعتها أجنداتٍ تحمل، في طيّاتها، مصالحَ يلوّنها الإشفاق على حال السودان، ولكنها قد تحمل من خفيِّ المطامع ما تحمل.

(6)

عجز جامعة الدول العربية لهوَ من عجز هيئة الأمم المتحدة، والتي أعلن الأمين العام الحالي غوتيريس، في خطابه الافتتاحي لدورة الأمم المتحدة الثامنة والسبعين، قبل أيام، أنّ الحاجة باتت أكثر إلحاحاً لمراجعة ميثاق المنظمة الأممية، وتهيئته لتعديلاتٍ سياسـيةٍ واقتصادية واجتماعية وثقافية لازمة، لها أن تستصحب ما طرأ من تحوّلاتٍ لازمة، ومن تحدّياتٍ حقيقية، لكأنّ الحال أصبح كحال عصبة الأمم التي تضاعف عجزُها سياسياً واقتصاديا، فقاد تآكُلها العالم إلى ويلات الحرب العالمية الثانية بين عامي 1938 و1945.

استفتح العالم، بعد انتهاء الحرب عام 1945، عهداً دوليا جديدا توافق المجتمع الدولي على ميثاق جديد له، فكانت هيئة الأمم المتحدة التي تبلغ 78 عاما. ولعله من نافلة القول إن لجامعة الدول العربية، وهي في عمر المنظمة الأممية، أن تراجع أوضاعها جميعا، من ضبط الأهداف إلى إعادة صياغة ميثاقها ورسم هياكلها وهيئاتها، وفوق ذلك كله وبعده، ضبط شروط العضوية، بما يضمن فعالية تلك المنظمة ويعزّزها.

(7)

إذا أقرّت الأمم المتحدة مراجعة ميثاقها وأهدافها، خصوصا ترتيب أمر عضوية مجلس الأمن، الدائمة والمؤقتة، فإنّ أول ما ينتظر أن تعالجه جامعة الدول العربية كذلك مراجعة أمر شروط عضوية جميع المنتمين إلى عضويتها، وما يقتضي ذلك من مشاوراتٍ معمّقة وتدارس وتمحيص ومداولة، بشأن الأهداف والمفاهيم والمصطلحات واللغة. جرت صياغات الميثاق التأسيسي لجامعة الدول العربية في الإسكندرية في مارس/ آذار 1945 على عجل ومن دون عصف فكري حصيف وشامل، وفي غياب إرادة الشعوب، وعلى الأمانة العامة للجامعة أن تتّجه بجُرأة وإقـدام إلى معالجة كلّ تلك النواقص بشفافية وموضوعية، تراعي، أول ما تراعي، متطلبات القوانين الدولية، ثم التقاليد والأعـراف التي جرى اعتمادها خلال سنوات التحوّلات التي شهدتها البشرية في العقود السبعة الأخيرة.

إذا كان مُقـدَّراً للمجتمع الدولي أن يُقدِم على مراجعة تراتبياتٍ حكمتْ عضوية مجلس الأمن وفق توازنات تخصّ أقطابا أقوياء، ومنذ سنوات طويلة، فإنّ الحال قد تبدّل والتحالفات لم تعد هي التحالفات، والأقوياء لم يعودوا هم الأقوياء وحدهم، والضعفاء أكثرهم ما عادوا ضعفاء. يحيلني ذلك كله إلى النظر في حال جامعة الدول العربية، والتي لا مناص مِن أن تبادر، وقبل أن تمتدّ إليها يد عمرو الذي تعرفون، لمراجعة أهدافها ووثائقها وهياكلها جميعا. لربما تبرز الحاجة إلى أن تتفكّك جامعة الدول العربية إلى أكثر من منظمة أو اتحاد، على نسق ما فعلت دول الخليج في مجلس تعاونها، ودول المغرب الكبير في اتحادها المغاربي، فتتقوّى أحوالهما إلى أقـوى ممّا عليه حالاهما الماثلان، وأن تنشئ بقية “الدول الأفروعربية”، مثل السودان وموريتانيا والصومال وجيبوتي وجزر القمر وإريتريا كياناً جديداً. لجامعة الدول العربية أن تبادر قبل أن يبادر عمرو الذي تعرفون.

مقالات ذات صلة