في العباءة أو تفكيك الخطاب الفرنسي بشأن الإسلام

محمد سي بشير

حرير- اعتدنا سماع المسؤولين، النُّخبة الإعلامية والمُثقّفة، في فرنسا، وهم يتحدّثون عن إشكاليات العلاقة مع الآخر أو الهوية، لكن مسلّمة أضحت مرادفة لتلك المداخلات ولصيقة بها، وهي الرّبط بين الأوضاع الاقتصادية والسّياسية الفرنسية وارتفاع منسوب الحديث عن تلك العلاقة والهوية، بل وتحويل ذلك إلى إجراءات قانونية يتمُّ، من خلالها، التّعامل مع الآخر، حتّى مع حمله للجنسيّة الفرنسيّة، ولكنّه من أصول أجنبية، وهي إجراءات عقابية أكثر منها سياقات لتوحيد النّسق الهويّاتي الفرنسي، كما يدّعي هؤلاء.

يتعلّق الأمر، في هذه المقالة، بالقرار الفرنسي، السّياسي والقضائي (جاء القرار بناءً على تعليمة من وزير التّربية ثمّ أيّدت المحكمة العليا اعتبار العباءة لباسا ذا رمزية دينية، وفق قانون 2004 الذي يحظر ارتداء العلامات البارزة ذات الرّمزية الدينية)، حيث تمّ اللُّجوء إلى رسم حملة إعلامية كبيرة، غرضها الرّبط بين الأوضاع الهوياتية الفرنسية، من ناحية، وأن العباءة، ومن يرتديها، أي المسلمين، من ناحية أخرى، ومع تفكيك الخطاب نجده بمضامين/ أبعاد سياسية وأيديولوجية أكثر منها قانونية.

هناك مرجعيّة لهذا التّفكيك للخطاب الإعلامي، تتمثّل في محتويات بعض المواد الافتراضية الفرنسيّة التي حاولت التّعرُّض لمختلف مضامين ذلك الخطاب، توصّلت، من خلال ذلك، إلى استخلاص عدّة نتائج، تُجمع، كلُّها، على أنّ استراتيجية الإلهاء أضحت القائد والملهم للتّناول الإعلامي المُوجّه والمُستقطب ضدّ الإسلام والمسلمين، بصفة خاصّة، مع محورية الخطاب الذي انتقل من تصيُّد الأخطاء وتضخيمها وصولا إلى أجندةٍ لمواضيع بعينها يتمُّ التّركيز عليها، وتتوجّه كلّ القنوات، الصحف، المجلّات، والعالم الافتراضي، المنتمي إلى التوجُّه اليميني المتطرّف، إلى تناوله، بل وتحويله إلى قضايا حقوقية، مع تسليط الضّوء على أنّ المستهدف من لباس معين، العباءة، هنا، أو الصّلاة، يوم الجمعة، على حافّة الأرصفة، هو اختلال وتهديد يمسّان الهوية المسيحية الفرنسيّة وخروج على قوانين الجمهوريّة.

يمكن النّظر إلى ذلك الخطاب، من ناحية ثانية، من خلال التّوجيه الذي تمارسه النُّخبة السّياسية، بمختلف توجهاتها وتجلّياتها السّياسية، ليس بقصد الأجندات الانتخابية، بل، أيضا، بفعل القولبة المرضية للفرنسيين باعتبار أنّ مشكلاتهم أعمق من الحياة اليومية، حيث إنّ ثمّة خطرا داهما على الأنساق الهوياتية الجامعة من مسيحية، حضارة غربية وعلمانية. ويبدو هذا الخطر، يقينا، أنّه جاء بطريقة غير مباشرة من خلال الهجرة النّظامية لإعادة بناء فرنسا، بعد الحرب العالمية الثّانية، لكن، بسبب تبنّي قوانين تسمح بالتّجمُّع العائلي، ثمّ قانون الجنسيّة الفرنسي المرتكز على منح الجنسية لكلّ مولود على الأراضي الفرنسية، تحوّلت تلك الهجرة إلى إشكاليّةٍ تتضمّن الاندماج، وهو ما لم يتم في ظروف مقبولة، لأنّ المهاجرين جرى دفعهم إلى السّكن في الضّواحي، كما أنهم لم يستفيدوا من التّعليم، بشكل كافٍ، كما لم تكن لهم فرصة الحصول على العمل بمستوى ما كان يحصل عليه الفرنسيون.

شعر المهاجرون بتلك التّفرقة، وسعوا إلى تحسين ظروفهم، وبخاصّة أنّ الجيل الثّاني (نحن، الآن، في الجيل الرّابع من المهاجرين)، ممن ولدوا في فرنسـا وحصلوا على الجنسية الفرنسية، رفع تحدّيات التّعليم، ونجح كثيرون منهم في الولوج إلى الجامعات وعالم الأعمال، بل واحتل بعضهم المكانة الاجتماعية العالية بفضل الرّياضة والإعـلام والفنّ، لكن ذلك كلّه لم يشفع لهم لبلوغ درجة القبول الكامل لهم من النُّخبة الفرنسية التي كانت، ولا تزال، تعاملهم كمهاجرين، والخطاب الذي يتكفّل بالتّعرُّض لشخصيّاتهم يرتكز على الانتماء والأصول، وليس على ما منحهم إياه القانون ومنجزاتهم التي تمّت باسم فرنسا، حيث يدّعي الرّياضيون، على سبيل المثال، زيدان وبن زيمة وجمال دبُّوز، بفرنسيّتهم. لكن، بمجرّد وقوع أدنى مشكلة (أنيلكا أنموذجا لما حدث في مونديال جنوب أفريقيا، في 2010)، تتمُّ الإشارة إليهم باعتبار ذلك الانتماء، بل تتمُّ معاملتهم على أنّهم أجانب بجنسيات فرنسية، أي غير كاملي الهوية الفرنسية، كما يحلو ليمينيين كثيرين، على غرار إيريك زمُّور ومارين لوبين (زعيما التّوجه اليميني المتطرّف في فرنسا)، وصفهم به.

لا يمكن، البتّة، فهم ذلك الخطاب من دون استعراض أطوار التّطوُّر التاريخي للتعامل مع المهاجرين، وهو خطاب لم يتغيّر في مضامينه، لكنّه كان يتكيف مع فترات الكساد والنُّمو الفرنسي حيث توازى/ تزامن ظهور اليمين المتطرّف واليمينية، بصفة عامّة، مع تلك الثُّنائية، حيث إنّ نسب النُّمو المرتفعة وانخفاض البطالة تؤثّر على تراجع ذلك الخطاب، بيد أنّه يأخذ منحنى تصاعديا بمجرّد فشل السّياسات الاقتصادية، ليشكّل المهاجرون الشمّاعة التي تُعلّق عليها تراجعات فرنسا في مكانتها، على كل الأصعدة.

عند تفكيك ذلك الخطاب، يتبيّن، أيضا، التّنسيق الذي تعمل، من خلاله، النُّخبة الفرنسية، السّياسية والمُثقّفة، ومن كلّ الاتّجاهات السّياسية، حيث إنّ تقسيم الأدوار ورفع وتيرة الخطاب يكونان بالتّساوي بين المنابر الإعلامية وبصيغ مختلفة تأخذ شكل كتابات، أحيانا، كما قد تكون نقاشات إعلامية أو أحاديث يُدلي بها فلاسفة، مؤرّخون، سياسيُّون أو إعلاميون، تصبُّ، في نهايتها، في معين الكراهية للمسلمين واعتبار أنّ وجودهم هو لبّ إشكالات فرنسا. ليتولّد عن ذلك، بمساعدة بعض التّيارات المتبنّية لنظريّة المؤامرة، بل بقيادتها، أحيانا، ما باتت تُعرف بنظرية الاستبدال الكبير الهادفة إلى استغلال ضعف نسبة المواليد في الغرب للاستيطان من المسلمين، وتغيير، بالنّتيجة، النّسيج الهويّاتي الغربي لمكوّناته المذكورة.

يتّسم ذلك الخطاب، لتكتمل مصداقيته، وفق سردية فرنسية خالصة، بإشراكه من أسماهم باسكال بونيفاس “المثقفين المدلّسين”، في كتاب يحمل العنوان نفسه، وهم ثلّة من مثقّفين وكتّاب، من بني جلدتنا، انسلخوا عن هويتهم، ويُستخدمون لنشر تلك الأفكار التي تروّج هوية إسلامية طاغية بخلفية سياسيّة، حيث ينتجون أفكارا تتوافق مع مخيال ما أضحى الخطاب العنصري بلبوس الرّسمية في الدّوائر الفرنسية، المشار إليها. وهي نخبة تضمُّ، من بين من تضمُّ ياسمينة خضرا وكمال داود وبوعلام صنصال، وكلُّهم جزائريون، ومعهم بعض المهاجرين من أصول مغاربية، على غرار الكاتب ذي الأصول المغربية الطاهر بنجلّون، يدافعون، كلُّهم، عن تلك السّردية، بل يؤلّبون، على مواطنيهم من المهاجرين، الرّأي العامّ الفرنسي بادّعاءات تتضمّن أنّ المفطور في المخيال الإسلامي لا يحمل إلّا العداوة لكلّ ما هو ليس إسلاميا، وأنّ احترام قوانين الجمهورية تقية، بالمعنى الشّيعي، أي مظهر خارجي، في انتظار أن تتوفّر الظُّروف التّي تسمح بإبراز رفض البيئة التي يعيش فيها المسلمون، بكلّ ما تحمله من عادات، تقاليد وقوانين أو ثقافة وسردية هوياتية.

تلك هي مجمل الأفكار التي يحملها الخطاب الرّسمي الفرنسي، بمكوّناته وأدواته التّي يستخدمها، وهو ما ينتج انتقادا من بعض الشُّرفاء من داخل النُّخبة السيّاسية الفرنسية، على غرار ميلونشون زعيم الحزب اليساري “فرنسا الأبية”. ولكن من دون أن تتوفّر للخطاب المعارض منابر إعلامية، بل يتمُّ إغلاق كل قنوات التّعبير ووسم المنتقدين بمتابعي الإسلام السياسي أو بالتّحالف مع الإسلاميين، مما بات يُعرف، في فرنسا، بالتّحالف بين اليساريين والإسلام السّياسي، وهي من بنات أفكار ذلك اليمين المتطرّف العقيم في إنتاج الأفكار، أو تقبُّل النّقاش في دولةٍ يُقال عنها إنّها مهد الديّمقراطية، ويحمل شعارها ثلاثية الحرّية والمساواة والأخوّة، شعار بات مفرّغا من محتواه في بلد يلاحق لباسا وشبابا، بزعم تهديد الهوية الفرنسية.

هذه حقيقة العباءة، والخطاب المرتكز على منعها يستدعي متابعته وتحليله، ذلك أنّ معرفة مضامينه تحلّ عقد فهم سياقاته وتداعياته مما لا يمكن إلّا التّعامل معه على أنّه حقيقة لصيقة بواقع التّقوقُع على الذّات الذي أصبح الغرب يعيشه بفعل رفض الآخرين التّأقلُم مع بعض من التّوجُّهات الجديدة غير المتكيّفة مع موروث ديني وثقافي، على غرار ما حدث، مثلا، في ملاعب كرة القدم، عندما تمّ إجبار اللاعبين على ارتداء شارات المثليين ورفض بعضهم حملها فعوقبوا، وهي قصّة أخرى.

مقالات ذات صلة