تدمير المخيمات انتصاراً لقضية فلسطين

محمود الريماوي

حرير- في وقتٍ تتعرّض فيه مخيمات في الضفة الغربية المحتلة إلى تنكيل منهجي ومسعور من القوة القائمة بالاحتلال، كحال مخيمي جنين وعقبة جبر، جنبًا إلى جنب مع محاولات تصفية وكالة الغوث (أونروا) التابعة للأمم المتحدة بغرض تصفية قضية اللاجئين وإزالة المخيمات، في هذا الوقت أو هذه الظروف، تتعرّض مخيمات في الشتات لحملات منهجية من أجل تصفيتها وتجريع سكانها محنة تشريد جديدة. هذا ما يحدث على الأقل في مخيم عين الحلوة، قرب مدينة صيدا في جنوب لبنان، ويقطن هذا المخيم عدد من اللاجئين يقدّر بسبعين ألف نسمة، وعلى مساحة تقل عن ثلاثة كيلومترات مربعة. وإلى سنوات قليلة خلت، كان عدد سكانه أكبر بكثير، لكن عملية النزوح عنه بسبب الاكتظاظ الشديد وضنك العيش والتوترات الأمنية فيه دفعت أعداداً من سكانه إلى مغادرته إلى دول أخرى كلما تيّسر لهم ذلك. وقد عُرف عن هذا المخيم عقودا أنه يضم فصائل منظمة التحرير، وبالذات حركة فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية، قبل أن يعرف وجوداً لحركة حماس، ولاحقاً لحركة الجهاد الإسلامي، في تسعينيات القرن الماضي. وتتولى الفصائل الأمن الداخلي للمخيم، وفق تفاهمات مع الجيش اللبناني.

ومنذ أواخر يوليو/ تموز الماضي، يشهد المخيم توترا أمنيا خطيرا، إذ تعرّض المسؤول الأمني الأول في المخيم، العميد أبو أشرف العمروشي، لعملية اغتيال هو وأربعة من مرافقيه. ولأن المخيم صغير المساحة، ويعرف من فيه بعضهم بعضا، تم تحديد الفاعلين بأنهم ينتمون لفصيل طارئ يدعى “الشباب المسلم”، ما أدّى إلى وقوع اشتباكات بين حركة فتح وهذا التنظيم الذي تسلّل إلى المخيم منذ وقت غير بعيد، وتمت المطالبة بتسليم القتلة وهم ثمانية، أربعة منهم لبنانيون والآخرون فلسطينيون. وقد رفض التنظيم “الشبابي” تسليم هؤلاء، وهو ما يفسّر تجدد الاشتباكات بين حركة فتح وهذا التنظيم، والتي أوقعت 15 قتيلا، وأدّت إلى حركة نزوح كبيرة من المخيم، وتضرّر المباني المتواضعة فيه. وقد دارت مباحثات بين حركتي فتح وحماس في دار السفارة الفلسطينية في بيروت، لمعالجة الوضع، حيث ركزت “حماس” على ضرورة وقف إطلاق النار، فيما شدّدت “فتح” على ضرورة تسليم القتلة، وبعضهم مطلوب للأمن اللبناني.

وإذ تحدثت تقارير إعلامية لبنانية على مدار الأسابيع الماضية عن حربٍ بين الفصائل الفلسطينية في المخيم، إلا أن واقع الحال يفيد بأن تنظيم الشباب المسلم (يحمل هذا الاسم ربما تيمّنا بفصيل أصولي في الصومال يتبع لتنظيم القاعدة)، لا يعدّ في عداد هذه الفصائل، إذ المعيار في هذه التسمية أن يكون للفصائل المسمّاة بهذا الاسم وجود على أرض فلسطين، وفي صفوف شعبهم، خلافاً لحال هذا التنظيم شبه المجهول، والذي يتردّد أنه يضم خليطاً من مقاتلين ينتمون لجنسياتٍ شتّى، ولا تُعرف قياداته ونشأته. ويزيد الريبة فيه أنه يتمتع بذخيرةٍ لا تنقطع، ما يثير التساؤل عن مصدر تسليحه وتمويله، فيما تجرّؤه على استهداف المسؤول الأمني الأعلى في المخيم يدلّ على أنه يعمل على بسط نفوذه في المخيم بقوة السلاح، بينما يفيد رفضه تسليم القتلة بأنه لا يعبأ بالأعراف التي تنظم وجود الفصائل فيه منذ اواخر ستينيات القرن الماضي، ولا بسلامة السكان.

يستذكر المرء، بالمناسبة، بروز تنظيم مشابه هو فتح الإسلام في العام 2006، الذي تسلّل إلى مخيم نهر البارد في شمال لبنان، وأدار اشتباكات واسعة مع الجيش اللبناني، أدّت، في النتيجة، إلى تهديم 80% من المخيم ونزوح غالبية سكانه. وقد انقطعت أخبار ذلك التنظيم بعد مأثرته تلك، كما انقطعت أخبار المخيم نفسه.

من الواضح أن هذا السيناريو يُراد له أن يتكرّر مع مخيم عين الحلوة المقام منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، إذ إن استهداف المسؤول الأمني الأول فيه يمثل فاتحة دموية لخطّة سيطرة على المخيم بعد جعله أطلالاً وأنقاضاً وعلى من يتبقّى من سكانه. وفي الوسع التمعّن قليلا في هذا السيناريو أو المخطّط المفترض الذي تدلّ عليه الوقائع المطردة، فالمخيم، كما ورد سابقا، يعدّ موئلا تاريخيا لفصائل منظمة التحرير، وقد تم تعديل التركيبة في التسعينيات مع وجود لحركتي حماس والجهاد الإسلامي فيه، وذلك انعكاساً لوجودهما على أرض فلسطين، وبالذات في قطاع غزّة. ويُذكر هنا أن ثمّة تفاهمات واتفاقات مرعية مع الدولة اللبنانية لضبط الوضع الأمني في المخيم، ومنع تسلّل عناصر وجماعات خارجة عن القانون إليه، غير أن المجموعة المسمّاة الشباب المسلم تسلّلت بقدرة قادر إليه. ومن الواضح أن وجودها قد أفسد النسيج الاجتماعي والسياسي، وأدّى إلى اضطراب حبل الأمن فيه.

لن يمكن لهذا التنظيم بسط سيطرته، غير أن ترك الأمور تتفاقم يساهم في تدمير المخيم. وتتمثّل المشكلة الأمنية والسياسية في إمعان هذا التنظيم بالخروج على القانون والأعراف، من غير أن تبذل جهات فاعلة، مثل حماس والجهاد الإسلامي، جهداً كافياً أو جدّياً في الضغط على التنظيم بهذا الاتجاه. والأسوأ من ذلك أنه لا يتم رفع الغطاء السياسي عن “الشباب المسلم”، باعتباره قوة ذات غايات مريبة، بل يجري عملياً التعامل معه كما لو أنه يمثل فصيلاً مثل بقية الفصائل، وذلك في خلاف وتزوير لواقع الحال. والخشية هنا أن لا يكون “الشباب المسلم” الطرف الوحيد الذي يرغب في تغيير الوضع كلياً داخل المخيم، بحيث تتحقق الأرجحية له في مرحلة أولى وقصيرة تسودها الفوضى، وهذا هو الفصل الثاني من السيناريو، قبل أن تتولى حركتا حماس والجهاد الإسلامي زمام الأمور وتنظيم الأوضاع في المخيم، على غرار الحال في قطاع غزّة. وهذا هو الفصل الثالث والأخير من السيناريو الذي تنبئ به الوقائع المتتالية، وبما ينسجم مع الواقع القائم في عموم لبنان، حيث يمكن للقوة النافذة في هذا البلد، وهي حزب الله، اعتبار المخيم حينذاك من مناطق نفوذه حين تهيمن عليه قوى متفاهمة مع الحزب، وتتشارك معه في رؤاه السياسية ضمن “محور الممانعة”.

أما مصير أبناء المخيم ومصير المرافق الحيوية فيه من مدارس ومراكز صحية ومتاجر، فإنه يمكن الاهتداء والاقتداء بالتجربة الزاهرة والباهرة التي آل إليها مخيم اليرموك في دمشق، والنسج على منوالها، ولا مانع أن يتشرّد المشرّدون مجدّداً، وأن يتضاعف بؤسهم، تحت شعارات كثيفة من نصرة قضية فلسطين.

مقالات ذات صلة