رجال الأسرار بين بريغوجين وحسن إشكال

ممدوح الشيخ

حرير- أحد الفروق الرئيسة بين “دولة القانون” و”دولة الصناديق المغلقة” تكشفه بعض مصائر رجال الظل، ومصير زعيم مليشيا فاغنر يفغيني بريغوجين، واحدة من وقائع إحلال “قانون الدم” محلّ العدالة، وفي مرآة مقتل جنرال الدم الروسي تعود إلى الذاكرة قائمة طويلة من المآسي المشابهة، وكثير منها يحيط بها من الغموض ما أحاط بمصير طبّاخ الكرملين. وبعد ثورة 25 يناير (2011) في مصر، قدّمت على شاشة قناة الاتجاه الإخبارية العراقية برنامجًا أسبوعيًا اسمه “ملفات ليبية”. كان مقتل معمّر القذافي قد أعقبته موجة نزوح كبيرة لبعض أهم رجال نظامه، وكانت تلك فرصة مهنية لمحاولة استكشاف (ولو قدر ضئيل من) صندوق أسرار نظامه. وإحدى القصص التي كشف عنها البرنامج للمرة الأولى قصة مقتل العقيد الليبي حسن إشكال. كان ضيفي في هذه الحلقة المستشار محمد بشير الخضّار، آخر “مدع عام عسكري” في نظام القذافي. وروى لي، في حلقة استثنائية بكل معنى الكلمة، جانبًا من القصة المثيرة لمسار العقيد الليبي حسن إشكال ومصيره الأكثر إثارة ودموية (أحد أبناء عمومة معمّر القذافي، واغتيل في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1985).

كان حسن إشكال أحد أقرب رجال القذافي إليه، ولعب أدورًا داخلية وخارجية لم يُكشف بعد عن أكثرها. وبحسب رواية الخضار، تلقَّى أمرًا بالتوجّه إلى سجن عسكري للتحقيق مع حسن إشكال، وقال لي الخضار إنه سأل إشكال عن سبب وجوده في السجن، وقاطعتُه، فلا معنى لأن يسأل المحقق متهمًا عن سبب القبض عليه أو توقيفه، وفاجأني ضيفي بأنه بالفعل عندما ذهب للتحقيق مع إشكال لم يكن لديه اتهام محدّد!

والمفاجأة الثانية أن حسن إشكال أجاب المحقّق بإجابة “مُلغِزة” وهنا اضطررتُ لمقاطعة الضيف مرة أخرى (احترامًا لحق المشاهد)، فالإجابة الملغزة قد تكون “شيفرةً” يمكن فك طلاسمها، وقد تكون نتيجة خللٍ عقليٍّ دائم أو عارض، وكانت إجابة المستشار الخضار بوضوح أن رد إشكال كان رسالة “مُشفرةً”. وعندما شعر المحقق أنه أمام طريق مسدود، أبلغ “من يهمّه الأمر” فجاءته تعليمات بالإفراج عنه. ومرّت الأيام وتلقَّى المستشار الخضار أمرًا بـ”مناظرة” جثة حسن إشكال في مستشفى عسكري، وعندما ذهب المستشار الخضار إلى المستشفى، فوجئ بمنعه من الدخول، وقد رجّح ما توقعته من احتمال أن يكون التعارض بين “الأمر” و”المنع” مؤشّرًا على تناقضٍ بين تقدير فريقين في السلطة، أحدهما يريد التحقيق والآخر يريد منعه. وعلى طريقة الدراما الهوليودية، تسلل الخضار مستعينًا بمعرفته الكبيرة بالمكان، ووصل إلى جثّة حسن إشكال ووجد أنه مقتول بأربع رصاصات، ووجدتُ في تفاصيل ما يحكيه إشارة إلى احتمال أن يكون مصرع حسن إشكال واقعة “إعدام شعائري”، (أي حكم صادر عن محكمة محفل سري) وهو لم يستبعد ذلك!!

وتشابه الطبيعة الغامضة لنظامي القذافي في ليبيا وفلاديمير بوتين في روسيا، وتشابه المصير الدموي لـ”رجلي الأسرار”: إشكال وبريغوجين، يكشفان حجم الخطر الكبير الذي يعشّش في السراديب المظلمة للأنظمة الشمولية، حيث، فقط، في “الصناديق المغلقة”، وحيث يصعد إلى قمّة هرم السلطة والنفوذ رجال لهم مواصفات معيّنة ثم يسقطون في لحظة. ومن المفارقات المحيّرة أن “آمر” كتيبة محمد المقريف، وكان عملها الأساسي حراسة القذافي وعائلته، كان اللواء البرّاني إشكال، وفي لحظة شديدة الحساسية من مسار الصراع على العاصمة الليبية طرابلس في 2011، قرّر اللواء البرّاني “التمرّد” على أمر عسكري صدر له من ضابط قريب من القذافي، وهي واقعة لا تزال تثير جدلًا لجهة احتمال ارتباطها باغتيال العقيد حسن إشكال.

الحد الأدنى من معنى الدولة يتحقّق، قبل أية سمة أخرى، عندما تكون العدالة حاضرة بوضوح في منظومة إجراءات، لا أن تختفي تمامًا وتحلّ محلها أساليب المافيات والمحافل السرّية. وفي تاريخ النظم الشمولية العربية التي ورثت الاستعمار الغربي المباشر منذ منتصف القرن الماضي، قائمة طويلة من وقائع الاختفاء الغامض من المسرح السياسي، وفي معظمها دُفِنت الحقيقة مع جثة القتيل إلى أجلٍ غير مسمى.

وبعض هذه الوقائع في بلاد”نا” وبلاد”هم” يجعل غموضها أطول عمرًا وأكثر تأثيرًا من نظيراتها التي تُعلن حقيقتها للعالم، والتشابه بين الشموليات في الشمال والجنوب ينطوي على دروس، بل قد يحمل في طيّاته نبوءات.

مقالات ذات صلة