رحل المغني وتظل الأغاني..!
علاء الدين أبو زينة
حرير- في أمسية ما من العام 1981، شاهدت لأول مرة، على شاشة التلفزيون العربي السوري قبل الفضائيات، حفلة لفرقة أغاني العاشقين. وكانت تلك بداية تعرُّفي إلى نوع مختلف من الأغنية الفلسطينية، أو المتعلقة بالهم الإنساني.
لم تكن أغاني «العاشقين» مترفة مثل أغاني «الميادين» (التي قادها مارسيل خليفة)، ولا أغاني «المركزية» القتالية المحرِّضة، أو أعمال الفرق المعنية بحفظ تراث أغاني الأمهات والجدات أو السامر بألحانها ونصوصها كما هي. كانت أغاني «العاشقين» كل ذلك ولا شيء منه على وجه التحديد. لكن أبرز ما ميزها كان توثيق الأحداث والأشخاص وتسجيلهم مباشرة ليصبحوا جزءًا أصيلًا من التراث الفلسطيني: قصة سرحان العلي، البدوي الذي فجر ماسورة النفط في ثورة 1936؛ نضال عز الدين القسام وأبو إبراهيم الكبير؛ قصة شهداء «الثلاثاء» الحمراء؛ قصة معركة لبنان مع الغزاة الصهاينة ووقوف الآخرين متفرجين على المذبحة؛ قصة الأسرى الذين جمعهم العدو في «معسكر أنصار» في جنوب لبنان، والكثير جدًّا.
سُجلت كل هذه الفصول من الحكاية الفلسطينية في التاريخ الشفهي الفلسطيني بصوت حسين المنذر (أبو علي) الذي رحل عن الدنيا جسدًا قبل أيام. عندما نريد أن نستذكر أو نروي قصة محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، سنستحضر صوت حسين المنذر، ونحاول أن نحكي حكايتهم على طريقته. وكذلك نفعل إذا أردنا سرد قصة الثمانين يومًا من المقاومة المجيدة في جنوب لبنان ومخيمات بيروت في 1982، أو قصة ثوار 1936 العرب والفلسطينيين مع المستعمر البريطاني الغاشم. أو حكاية خروج الفلسطينيين الذين «حمّلوا وشالوا»، فقط ليحملوا البنادق ويعسكروا في الجبال. وثمة الأغنية المحرضة أيضًا: «قيدي يا نار الثورة وضوي بالنارْ/ جمرة بتولع جمرة وبتنشب نارْ»، وأغنية الحنين والأرض عن «عود اللوز الأخضر» المزروع في الدار.
كان حسين المنذر قائد «العاشقين» وصوتهم وروحهم. واستطاعت أغانيه أن تضيف بشكل خاص إلى البعد الهوياتي الاجتماعي الفلسطيني لأنها أصبحت حاضرًا ضروريًا في المناسبات، يحفظها ويرددها الفلسطينيون في أفراحهم التي لم تنفصل حتمًا عن القصة الوطنية. وربما كان هذا التطبيع لفصول القصة في الممارسة الاجتماعية الشعبية بسلاسة وعادية سمة اختصت بها أغاني فرقة العاشقين، وجسدها حسين المنذر.
وحسين المنذر، لبناني من بعلبك، عاش واشتغل مع المقاومة الفلسطينية في دمشق. وكان ما كرس نفسه له تعبيرًا بليغًا –حرفيًا- عن «كونية» النضال ضد قوى القهر، باعتباره قضية الإنسان من أي جنسية – ناهيك عن أن تكون القضية عربية. وقد نعاه الرئيس الفلسطيني، مؤكدًا هذا البُعد: «ننعي، إلى شعبنا الفلسطيني في الوطن والشتات، وأمتنا العربية، وأحرار العالم، فنان الثورة الفلسطينية، قائد فرقة العاشقين، المناضل الكبير الفلسطيني والعروبي حسين المنذر «أبو علي»… فلسطين فقدت ابنا من أبنائها المناضلين الأوفياء الذين كرسوا حياتهم لخدمة الثورة الفلسطينية، عبر مسيرة فنية ونضالية شكل خلالها نموذجًا فنيًا سيظل خالدًا في الوجدان الوطني الجمعي لشعبنا».
وأضاف عباس أن «الفنان الراحل حول بأغانيه وأناشيده الوطنية تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة ومعاركها وبطولاتها إلى صورة حية؛ من خلال فرقة العاشقين التي اقترن اسم الفنان الراحل بها».
سجل حسين المنذر نفسه، مثل بقية المناضلين من حُراس الذاكرة الفلسطينية، إلى الأبد في تاريخ فلسطين. لكن قصته تأثرت أيضًا بأطوار الثورة التحررية الفلسطينية. فقد عايش أبو علي و»العاشقين» فترة مجيدة من مسيرة النضال الفلسطيني، مليئة بالحيوية والآمال والإلهام. وللأسف، حلت محل تلك الفترة مرحلة كسولة أصبح من شروطها– عن قصد أو غير قصد- إسكات الصوت الفلسطيني وطمس فصول من حكايتها تتعرض مع الاتجاه السائد الميال إلى المهادنة والخضوع. ومع «العاشقين» سكتت المؤسسات الفنية- الثقافية والفرق التي عبرت عن رؤية كفاحية للصراع مع المستعمر الاستيطاني الصهيوني.
لا يكفي أن يُنعى حسين المنذر باعتباره صوتًا خدم القضية الفلسطينية مرحليًّا ولم يعد لازمًا اليوم لأن عمله لا ينسجم مع المرحلة. في الممارسة الشعبية الفلسطينية، ما يزال ما عبر عنه أبو علي هو المشروع الوطني التحرري الذي لا بديل عنه. ولذلك، يردد الأبناء والبنات أغانيه في المناسبات مثلما فعل الآباء من جيل الثلث الأخير من القرن الماضي لأن القصة لم ولن تتغير. وسيتحول عمل المناضل الفنان فقط لدى الفلسطينيين بقدر ما تتحول وسائل استعادته فقط: من الكاسيت إلى القرص المدمج إلى «يوتيوب» وأي وسيلة أخرى تجعلنا نراه ونسمعه، طالما بقيت فلسطين والفلسطينيون.