الحقائق الفرنسية عن الفشل الأفريقي

محمد سي بشير

حرير- ترتقي الحقائق عندما تخرج من مسؤولين معنيين بالسّياقات والمخارج، بما أنّ العملية السّياسية نهر متدفّق من الثّوابت الاستراتيجية والمتغيّرات الآنية، الى مصافّ المسلّمات، حتّى إذا كانت سوداوية لوقائع قريبة منّا وتداعياتها ستطاولنا ولو من شراراتها. وقد نطق وزيران سابقان للخارجية في فرنسا، دومينيك دو فيلبان وهوبير فيدرين، نطقا بتلك الحقائق، في ندوة إذاعية.

قال دوفيلبان إن ما جرى من انقلابات في أفريقيا ترجمة لتراجع مكانة فرنسا وتردّدها في التعامل مع القارّة، وإن الأوضاع تغيرت، لكن فرنسا أبقت على ثوابت أتى عليها الزمن من فوقية في الأداء واستقطاب في تمييز ما تستقطعه من مصالح، من دون أدنى مراعاة للأوضاع المحلية للشعوب والدول الأفريقية. أشار، أيضا، إلى عولمة العلاقات الأفريقية مع بقية الفواعل الدولية، وهو عامل ظلّت فرنسا تتغافل عنه، إلى أن تداعت تلك القوى، الدّولية والإقليمية، إلى عرض شراكات ذات شكل ومضمون أفضل مما تفعله فرنسا، والغرب عموما، لتكون النّتيجة، في النّهاية، هذه الأوضاع الانتقالية في القارّة من تبعية كاملة للقوّة الاستعمارية السابقة إلى بحث عن واقع آخر، ربما يكون المشهد، في منطلقه، بالتنديد بالوجود الفرنسي، رفض الأوضاع السابقة وصولا إلى الانقلابات وخروجا عن التّوافقات مع فرنسا، الدّفاعية/ الأمنية والاقتصادية التي لم تكن، في الحقيقة، وفق رأيه، إلا في صالح باريس.

يشير دوفيلبان إلى عنصر هام يسهّل فهم الأوضاع الأفريقية، وهو العنصر الخاص باستبدال فرنسا اليد الاقتصادية، في التعامل مع القارّة، بالعسكرة من خلال العدد الكبير من القواعد العسكرية في البلدان الفرنكفونية والتدخلات، في إشارة إلى عمليتي سرفال ثمّ براخان في مالي، وهو مؤشّر إلى أن فرنسا تفضّل ظروف النهب والاستبداد على شروط العلاقات المتوازنة ذات المصالح المتبادلة بين باريس، من جهة، والدول الأفريقية، من جهة أخرى.

ردّ فيدرين على دوفيلبان رافضا تلك القراءة، باعتبار أن التبعية، وفق رأيه، كانت بطلب من تلك الدول الأفريقية التي استعانت بباريس، لتقدّم العون لها قصد بناء جيوشها، رسم مؤسساتها السياسية وتشييد اقتصاداتها، بل أضاف أن النخب الأفريقية الحاكمة كانت دوما تحبّذ التعامل بتلك المقاربة مع فرنسا، لأنها القوة التي توفّر لها الحماية وتساعدها على إرساء الاستبداد أو كما التنمية وفق الرُّؤية الأفريقية.

اتفق الوزيران السابقان بشأن الازدواجية الفرنسية في التعامل مع ما أطلقا عليها “الديمقراطية الأفريقية”، كونها ترتكز على إجرائية انتخابية، تعلم باريس أنها موجّهة ومستقطبة وتسند فيها فرنسا النخبة الحاكمة على تكريس بقائها، وهو ما ألّب عليها، وفق ما تحدّثا به، الشعوب الأفريقية التي بدأت تشعر بالبون الشّاسع بينها وبين بعض المظاهر الخارجية للثراء في قلب السلطة وهوامشها، في حين أن مؤشّرات الفقر ضاربة أطنابها في بقيّة شرائح المجتمعات في القارّة لتكون النتيجة أن تلك الشعوب أضحت تُحمّل فرنسا المسؤولية على التردّي على كل المستويات التي وصلت إليها القارّة.

يتبين، من النقاط المذكورة، أنّ فرنسا تتحمّل المسؤولية، وفق رؤية مسؤوليها السّابقين، الممارسين لتلك السياسات، عندما كانوا في مناصبهم، على رأس وزارات، في أوضاعٍ كثيرة آلت إليها القارّة، ومنها موجة الانقلابات التي شهدتها أخيرا، والتي كلما قلنا إن الفساد والرشوة، إضافة الى تزوير الانتخابات، قد وصلا إلى قمتها، نفاجأ بأن الواقع أمرّ، والإشكالية، في هذا كله، أن فرنسا تسمّي تلك الأوضاع بالشّرعية الدُّستورية ونداءاتها بالرّجوع إلى الشرعية، في ازدواجية في تعريف مفاهيم الشرعية التي لا يمكن أن تتوافق مع تلك المقاربات التي سمحت لنخب أفريقية من التربّع على عروش دولهم ملوكا غير متوّجين عقودا وبفساد ونهب بدون حدود تتشارك فرنسا في إرساء ذلك كله من خلال شبكة “فرنسا الأفريقية”.

لم يحتلّ موضوع التهديدات حيزا مهما في نقاش المسؤولين المذكورين، بالرغم من إشارتهما إلى الإرهاب والهجرة غير الشرعية، ولكن من دون الإطالة فيها، باعتبار أن الظاهرتين ناتجتان عن تلك المقاربة التي تتحمّل فرنسا مسوؤليتها، وباعتبار أنهما، في أثناء عملهما وزيرين للخارجية، كرّسا ذلك، ما يدل على أن تحليل الرجلين، وإن كان مصيبا، في بعض النقاط، إلا أنهما يوجّهان الرؤية، ضمنيا، إلى وجوب استرجاع فرنسا مكانتها للعب الدور الفعّال الذي كانت تؤدّيه، بمعنى أنهما لا يشعران بالحالة الأفريقية ومآلات الأوضاع بسبب سلوك بدلهما، بل همّهما الكبير التعرّض للإشكالات المرتبطة بأسباب تراجع مكانة فرنسا، وكيفية التعامل مع عولمة العلاقات الأفريقية التي يظنّان أنها جاءت على حساب مصالح فرنسا الاقتصادية والاستراتيجية، بصفة خاصة.

من الملاحظ، أيضا، أن همّ المسؤولين، والنخبة الفرنسية، برمّتها، الحالية والسابقة، كان وما يزال، هو تكريس الأوضاع التالية للاستعمار، ذلك أنّ الوزيرين لم يأتيا، في نقاشهما، على ذكر الشبكة الأخطبوطية للمصالح الفرنسية في القارّة من شركات، خصوصا الطاقوية والمعدنية (أريفا لليورانيوم وتوتال لاستخراج وتسويق النفط والغاز)، والسّبب أنّ المسؤولين، في فرنسا، عندما ينهون عملهم الرّسمي يصبح أغلبهم مستشارا لتلك الشركات، بل يقوم بعض منهم بعمل رسمي لصالح تلك الشركات، إما بتعيين من الحكومة الفرنسية أو بإيعاز منها، وهو ما يمنع التحليل من أن يكون واقعيا، ويشير إلى النّقاط المهمة والحيوية.

من ناحية أخرى، تجري تك التحليلات إما على أمواج إذاعة عمومية، على غرار النقاش الذي بين الوزيرين، أو على “بلاتوهات” قنوات إعلامية يمولها بعض ممّن يملك مصالح في دول القارّة، على غرار بولوري، صاحب قناة سي نيوز، اليمينية المتطرّفة، بل يتعدّى الأمر إلى المجلات والصُّحف التي لها ارتباطات مع المعلنين من الشركات الكبرى، لتكون التحليلات، بالنتيجة، موجهة ومستقطبة، ولا يمكن الخوض، من خلالها، في المسائل الموضوعية التّي يمكن أن تفسّر الأسباب الحقيقة لهذا الوباء الانقلابي، كما أطلق عليه الرّئيس الفرنسي، ماكرون، نفسه، قبل أيام.

تشير تلك التّحليلات، في رؤية نقدية لها، من ناحية أخرى، إلى العقم الذي وصلت إليه النُّخبة الفرنسية التي كانت، في فترات سابقة، تعمل على إرساء ما تُعرف بالمقاربات الخاصة بالمراقبة، المساءلة والنقد اللاذع للسياسات العامة لمسؤولي بلادهم. وفي الآونة الأخيرة، توازت حقيقة تراجع مكانة فرنسا مع تردّي مستوى الكتابات والتّحليلات الفرنسية سواء للوضع الداخلي (أضحى يمينيا، إسلاموفوبيا ومحرّضا على الآخر بالإضافة إلى تركيزه على الهوية) أو الخارجي (أضحى موجّهـا ومستقطبا، ولا يأبه إلا بالمصالح الفرنسية، من دون تلك القيم الديمقراطية التي كانت تسمح بهامش من النقد الذاتي).

يمكن النّظر إلى ذلك النّقاش باعتباره عينة من العُقم المشار إليه، والذي نزل إلى الحضيض، هذه الأيام، للتغطية على ذلك الفشل بالتركيز على قضية لبس الفتيات لما أضحى يحمل مسمّى العباية أو اللباس الطويل للنساء، وهو ما يدلّ على التراجع الفرنسي المستمر. وموجة الانقلابات، كما جاء في مقال سابق لصاحب هذه السُّطور، في “العربي الجديد”، لن تتوقف، ولكن ليس لرأب ذلك الصدع بين باريس والقارّة، بل تكريسا لأوضاع جديدة على خلفية إعادة تشكيل النّظام العالمي وموجة السّخط على ميكانيزمات تسيير الرّأسمالية (مجموعة البريكس وإشكالية التّعامل بغير الدولار في المبادلات).

تدلل نقاشات النُّخبة الفرنسية على زاوية رؤية أخرى، قد تكون حيوية لنا، وهي أن عقمها إيحاء لنا بأن ندلي بصوتنا بالنقد له (العقم)، وإنتاج أفكار تحرّك الوضع الراكد، وتتغلب على ذك الاحتكار الذي ساد، وقتا طويلا، في صناعة الرأي العام وتوجيه القناعات نحو الوجهة التي تخدم مصالح تلك القوة الفرنسية التي أضحت نمرا من ورق، ولكن ذلك لن يتم إلا من خلال ثلاثية مقدسة، الكفاءة، الرشادة والنجاعة وذلك خطاب آخر.

مقالات ذات صلة