هذه الإسلاموفوبيا في فرنسا

أحمد طه

حرير- مُنعَت عشرات الفتيات من الالتحاق بصفوف مدارسهنّ، صباح الاثنين الماضي، في فرنسا، بسبب رفضهنّ الامتثال لقرار وزير التربية الفرنسي، غابريال أتال، بحظر ارتداء العباءة في المدارس، مع انطلاق العام الدراسي في فرنسا، حيث أوضح الوزير أن حوالي 300 فتاة تحدّين منع العباءة في المدارس، وحضرن بها مضيفاً أن معظمهنّ وافقن على تغيير العباءة، بيد أن 67 منهنّ رفضن، فجرت إعادتهن إلى منازلهنّ، وسيتمّ في وقت لاحق عقد جلسات حواريّة مع عائلات الفتيات الرافضات خلع العباءة، وسيتمّ استبعادهنّ من الدراسة إذا فشلت تلك الجلسات.

وكان الوزير قد أصدر قراراً، قبل أيّام، بحظر ارتداء العباءة في المدارس، بحجّة أن هذا الزيّ ينتهك القواعد العلمانيّة الصارمة في مجال التعليم في البلاد، مُشدّداً على سعيه إلى وضع “قواعد واضحة على المستوى الوطني” لمديري المدارس. وقال إن ارتداء العباءة “يُعبّر عن انتماء ديني في البيئة المدرسيّة، ولا يمكن التسامح معه فيها”. وعبّر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عن دعمه حظر ارتداء العباءة، وغيرها من الملابس الإسلاميّة، في الفصول الدراسيّة، داعياً إلى التعامل بحزم لضمان تطبيق القرار. وبررّ القرار بأنه “لا ينبغي أبداً ترك المعلّمين ومديري المدارس يواجهون بمفردهم الضغوط والتحديّات القائمة بشأن هذا الموضوع”، مُشدِّداً على أن لدى “فرسان الجمهوريّة” هؤلاء الحقّ في الدفاع عن العلمانيّة.

وقد لاقى القرار ترحيباً في أوساط اليمين في فرنسا، بينما أبدت عضو البرلمان عن حزب “فرنسا الأبيّة” اليساري الراديكالي، كليمنتين أوتان، معارضتها له، واعتبرته غير دستوري، ومخالفاً للمبادئ التأسيسيّة العلمانيّة، وأنه من أعراض “الرفض المهووس للمسلمين” من الحكومة. وأعلن زعيم الحزب جان لوك ميلانشون دعمه موقفها، معبّراً عن حزنه الشديد بسبب ما اعتبره “استقطاباً سياسيّاً من خلال حرب دينيّة جديدة سخيفة ومصنوعة حول زيٍّ نسائي”، فيما اعتبر المجلس الفرنسي للديانة الإسلاميّة القرار تعسّفيا، ويُحدِث “مخاطر عالية للتمييز” ضدّ المسلمين.

يمكن قراءة القرار الجديد أنّه مجرّد تنويعة جديدة على ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، التي تفاقمت في الغرب بصفة عامةّ خلال السنوات الأخيرة، بالتخويف من المسلمين، بالنظر إليهم بعين التربّص والاتهام، ومحاصرة حضور المظاهر الإسلاميّة بشتّى الصور في المجال العام، وتزايدت وتيرة “الإسلاموفوبيا” بصورة ملحوظة في الفضاء الغربي، سيّما في فرنسا ذات الخصوصيّة في نظامها العلماني، شديد الشراسة تجاه حضور الدين في المجال العام.

بمحاولة استقراء الإجراءات الجديدة، نجد أن من الواضح أن محاربة فرنسا حضور أيّ مظهر إسلامي في المجال العام وصلت إلى مرحلة الهوس بالفعل، فالنسخة العلمانيّة الفرنسيّة شديدة التطرّف، ذات طابع لائكي بالغ الشراسة تجاه حضور الدين في المجال العام، نظراً إلى تاريخ الكنيسة الكاثوليكيّة في الحقبة الملكيّة في فرنسا، وتحالفها مع الإقطاع ونزعتها التسلّطيّة القهريّة، بيْد أن المُتتبّع للمشهد الفرنسي في السنوات الأخيرة يجد أن هناك حالة من التربّص الشديد تجاه كلّ مظهر إسلامي، مهما بدا خافتاً، تبعتها موجة من القرارات التي تستهدف المسلمين دون سواهم.

صدر في عام 2004 قرار بحظر ارتداء الحجاب في المدارس الحكوميّة الفرنسيّة، تبعه قرار آخر في عام 2010 يفرض حظراً على ارتداء النقاب الذي يغطّي الوجه في الأماكن العامة، باعتبارهما من المظاهر الدينيّة المميّزة، بيْد أن العباءة ليست من الأزياء الدينيّة الخاصّة بالمسلمين، بل هي مجرّد زيٍّ مُحتشِم ترتديه بعضهنّ من ذوات النزعة المحافظة من مختلف الديانات، ويرتبط ارتداؤها بتقاليد محافظة أكثر منها بتعاليم دينيّة.

لا يمكن هنا أن نغفل التصريحات المتواترة الصادرة من أرفع الشخصيّات الرسميّة الفرنسيّة، والتي تحمل توجسّاً صارخاً من المسلمين والمهاجرين، مثل تصريح الرئيس الفرنسي السابق هولاند، على خلفيّة عمليّات إرهابيّة شهدتها فرنسا، إن المسلمين يُشكّلون خطراً على نظام الجمهوريّة العلماني، أعقبه بقراراتٍ أخضعت المساجد لرقابة مشدّدة باعتبارها مراكز لنشر الفِكر المتطرّف، إلى جانب فرض قيود كبيرة على المهاجرين وطالبي اللجوء من المسلمين. أمّا الرئيس ماكرون فأنشأ وزارة تحت مسمّى “التنمية المستديمة والاندماج” لتنظيم أوضاع المهاجرين المسلمين، ولم تفتأ تصريحاته المتتالية على التأكيد على وجود مشكلة معهم وحدهم دون سواهم، أشهرها تصريحه المدوّي الخطير قبل ثلاثة أعوام “إن الإسلام ديانة تعيش اليوم في أزمة في كلّ مكان في العالم”، بسبب تجاذب تيّاراتٍ داخلها، مُشدّداً أن على فرنسا “التصدّي للنزعة الإسلاميّة الراديكاليّة” الساعية إلى إقامة “نظامٍ موازٍ” و”إنكار الجمهوريّة”، مهاجماً ما وصفها “الانفصاليّة الإسلاميّة”.

بات واضحاً أن تلك التصريحات تُرجٍمَت بصورة فورية إلى إجراءاتٍ ذات طابع تمييّزي بالغ التعسّف، بعيدة تماماً عن قواعد الاندماج والتفاعل المجتمعي، وتتدخّل بصورة فجّة في الخيارات الشخصيّة للأفراد، وتتجاوز مرحلة الخوف من التطرّف أو الإرهاب إلى مرحلة ملاحقة أيّ مظهر يمتّ للإسلام بأدنى صلة، ومحاربة وجوده في المجال العام، وتستهدف المسلمين دون سواهم.

النقطة اللافتة هنا أن فرنسا بالتحديد فشلت فشلاً ذريعاً في كلّ نُسخها الجمهوريّة (التي ما فتئت ترفع شعاراتها التنويريّة الحداثيّة: الحرية – الإخاء – المساواة) في إقامة نموذج حضاري يقوم على المواطنة، والتعدّد، والاندماج، كما أن هناك تمييزاً صارخاً تشهده فرنسا أخيرا، فشلت كلّ الحكومات المتعاقبة في التعامل معه منذ أزمة الضواحي في العام 2005.

الأدهى أن مثل تلك الإجراءات التعسّفيّة ذات الطابع الهويّاتي الفجّ، التي تهدف إلى تحقيق الاندماج ومحاربة النزعات الانفصاليّة، تحمل في طيّاتها عوامل تفريغها من مضمونها، حيث ستؤدّي، على المدييْن المتوسّط والطويل، إلى نقيض مقصدها، بتحقيق نتائج عكسيّة، فمن شأنها أن تدفع المسلمين إلى الانعزال، والانغلاق المجتمعي، والانكفاء على الذّات، مع استحضار شعور جارف بالتهميش، والإقصاء، والاضطهاد، خصوصا مع انتشار موجة النزعات اليمينيّة المُتطرّفة، التي تطالب دوماً بمثل تلك الإجراءات، وهو ما يُمثّل مناخاً مأزوماً تتزايد فيه نزعات الانقسام المجتمعي، فضلاً عن كونها تمثّل وقوداً مثاليّاً لانتشار التطرّف.

مقالات ذات صلة