“انقلاب” على فرنسا

محمود الريماوي

حرير- نجح العسكر الانقلابيون في النيجر في جذب أنظار العالم إلى دولتهم الشاسعة في غرب أفريقيا، حتى أن التطوّرات في هذه الدولة “الفقيرة” منذ 26 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، طغت على أخبار الحرب في أوكرانيا وعلى التوترات في مضيق تايوان. ويكمن هذا النجاح في الأسلوب المتدرّج وغير العنيف الذي اتبعه الانقلابيون، فقد بدأ الانقلاب بتمرّد الحرس الرئاسي على الرئيس محمد بازوم ومنعه، مع وزير الداخلية، من مغادرة القصر الرئاسي، من دون توقيفِه واحتجازِه في أحد المعسكرات الأمنية، وتطلب الأمر الانتظار طوال ذلك اليوم لمعرفة موقف القوات المسلحة مما يجري، ثم حسم الموقف قائد سلاح الجو أمادو عبد الرحمن، الذي أعلن الانحياز إلى المتمرّدين، قبل أن ينضم قادة القطاعات العسكرية الأخرى إلى تأييد الانقلاب الذي عمد إلى إغلاق المجال الجوي للبلاد وفرض حظر تجول ليلي، من دون أن يمنع ذلك خروج مظاهرات رافضة للانقلاب في البداية، قبل أن تخرج مظاهرات أكبر مؤيدة لما جرى وتستحوذ على الشوارع الرئيسية في قلب العاصمة نيامي.

مع ضبط الأعصاب هذا، والامتناع عن إطلاق النيران، وعدم وقوع ضحايا، وإعلان “المجلس الوطني لحماية الوطن” التعهد “أمام المجتمع الوطني والدولي في ما يتعلّق باحترام السلامة الجسدية والمعنوية للسلطات المخلوعة وفقاً لمبادئ حقوق الإنسان”، فقد نجح الانقلابيون في إثارة انطباع بأن ما جرى ليس انقلاباً عسكرياً معهوداً، بل عملية محدودة لعزل الرئيس الذي لم يمسّه سوء بعد مضي أكثر من أسبوعين، بل حافظ على تلقّي الاتصالات من الخارج من غرفة خاصة احتياطية لجأ إليها ومجهّزة بأدوات الاتصال، وذلك قبل أن تتواتر الأنباء عن قطع الماء والكهرباء عنه وعن عائلته (زوجته وأحد أبنائه). وقد تردّدت أنباء عن دعوة الانقلابيين الرئيس المنتخب أن يعلن استقالته ضمانة لسلامته وانضمامه إلى صفوف المواطنين “العاديين”، بيد أنه رفض العرض وتمسّك بشرعية موقعه، ما حمل الانقلابيين على التضييق عليه بصورة متزايدة.

وخلافا لما توقّعه الاتحاد الأفريقي، أفادت التهديدات التي أطلقتها مجموعة إيكواس بالتدخل العسكري، بنبرتها التدخلية، الانقلابيين، إذ جعلتهم في موقع الدفاع ضد تدخّل عسكري خارجي، وأذكت المشاعر الوطنية في صفوف الجمهور. كما جذب الانقلابيون إلى صفّهم دولتين مجاورتين، بوركينا فاسو ومالي، وقد أبدى المسؤولون فيهما استعدادهم للدفاع عن الجارة النيجر. وبدت الدول الثلاث متّحدة في رفع الراية ضد الوجود الفرنسي في المنطقة … وكان وما زال على فرنسا، بمختلف مكوّناتها، أن تدرك أن وجودها ما يزيد عن قرن في النيجر اقترن بدوام إفقار هذا البلد الذي حافظ على ارتباطه ببلد الأنوار، رغم سلسلة الانقلابات العسكرية، وحيث ما زالت الفرنسية اللغة الرسمية للبلاد، ولكأنه ليس لـ22 مليون نسمة لسان يتحدّثون به. ورغم ما يتمتّع به الرئيس الشرعي بازوم من مزايا شخصية، ومن نزوع إلى تطوير البلاد، لم ينجح في شقّ طريق وطني مستقل لبلاده التي كانت من الدول الأفريقية السبّاقة في انتزاع استقلالها في العام 1960. والحال أن فرنسا احتفظت بوزن عسكري ثقيل، عبر ثلاث قواعد عسكرية تُضاف إليها مراكز للتدريب. وقد انضمّت الولايات المتحدة إلى فرنسا في العام 2016 بإقامة قواعد عسكرية غير محدّدة، لكنها تضم 1100 جندي، إضافة إلى نشر قوات ألمانية وإيطالية وكندية لتدريب قوات النيجر، من غير أن تكون هناك كليات ومعاهد عسكرية محلية لأداء هذا الهدف، وبعد نحو ستة عقود على الاستقلال. وقد ارتبط اسم فرنسا النووية بالسيطرة على إنتاج مناجم اليورانيوم الذي يدخل في مكونات القنبلة النووية وفي توليد الكهرباء، فيما تتولى شركة كندية إنتاج الذهب مع عائد بنسبة 20% للنيجر. ورغم وجود اليورانيوم والذهب والفوسفات والحديد الخام والفضة، إلا أن حصة هذه المعادن الثمينة في الميزانية العامة لا تزيد عن 2%، فما زالت الزراعة وتربية المواشي تشكلان عصب الاقتصاد الوطني في بلدٍ تبلغ نسبة الصحراء الكبرى فيه 80% من مجمل مساحته.

وقد رأت فرنسا في الأنشطة الإرهابية لجماعات جهادية متطرّفة في منطقة الساحل ذريعة لتأبيد وجوها الأمني والثقافي في هذا البلد الذي لطالما وُصف بأنه جزء من أفريقيا الغربية الفرنسية، وهو نعت يثلج قلوب نخب فرنسية نافذة، تقلبت على قصر الإليزيه عقودا. وهو ما يفسّر مشاعر الصدمة التي سادت الأوساط الفرنسية عقب وقوع الانقلاب الذي أعلن إلغاء الاتفاقيات مع فرنسا، من غير التطرّق إلى نفوذ دولٍ غربيةٍ أخرى، إذ يختزل الوجود الفرنسي كما يبدو أشكال النفوذ الأخرى في وعي أبناء النيجر.

أما الاتحاد الأفريقي الذي لم يُظهر ذلك القدر من التفاجؤ بما حدث، فقد التزم بموقف رافض للانقلاب، ولزوم عودة الحكم الدستوري. بينما حزمت مجموعة الإيكواس، وتضم 15 دولة في غرب أفريقيا (بينها مالي وبوركينا فاسو)، أمرها، وأطلقت تهديدا بالتدخّل العسكري، وهو خيارٌ يفتح الباب أمام اقتتالٍ لا ينتهي، ويتخطى حدود النيجر، وخصوصا مع إعلان دولتين وقوفهما إلى جانب المجلس العسكري. وكان يفترض التلويح بمجموعة عقوبات من دون الانزلاق إلى تهديدات عسكرية، وبخاصة أن الأمور لم تبلغ مرحلة اندلاع صراعات أو نزاعات أهلية، إذ نجح الانقلابيون في السيطرة على الأمور من دون إطلاق موجة عنفٍ وإراقة دماء، فيما بدت الولايات المتحدة أقلّ جموحا، إذ نشطت وما زالت من أجل التوصل إلى تسوية داخلية تعيد الحكم المدني إلى البلاد، وتحول دون تسلّل مرتزقة فاغنر إلى هذا البلد وبغطاء رسمي، وفي أجواء عامة، تحبذ فيها قطاعات من الرأي العام استبدال النفوذ الفرنسي بنفوذ روسي على مقاليد البلاد.

وأيا كان ما سيؤول الوضع إليه في الشهور المقبلة، من الواضح أن الوجود الفرنسي بالذات سوف ينحسر عن هذا البلد، إذ حتى لو عاد الرئيس بازوم إلى السلطة، وهذا مستبعدٌ وشبه مستحيل، فلن يستطيع معاكسة التيار الجارف لدى الرأي العام والمؤسّسة العسكرية بضرورة إنهاء الوجود الفرنسي وانتزاع الاستقلال الثاني، عسى أن يكون استقلالاً ناجزاً لا يتم فيه استبدال سطوة قديمة باستقبال نفوذ أجنبي جديد.

مقالات ذات صلة