الكلام قد يكون عليه “جمرُك” في الأردن

محمود الريماوي

حرير- مضى مشروع قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية في الأردن، عبر موافقة مجلسي النواب والأعيان على المشروع الذي تقدّمت به الحكومة، وبعد أن أدخل المجلسان تعديلات عليه، ثم صدر القانون بإرادة ملكية، وتم نشره في الجريدة الرسمية (صحيفة للدولة تختص أساساً بنشر القوانين والقرارات الموقّعة من الملك)، على أن يسري القانون بعد 30 يوماً من نشره. وقد جرى العُرف على موافقة الملك على القوانين التي تنال موافقة مجلس الأمة، وبخاصة حين يحظى قانونٌ ما بموافقة أغلبية كبيرة في المجلسين (الأعيان والنواب)، وهو ما حدث مع مشروع قانون الجرائم الإلكترونية. ولم تنجح معارضة مجتمعية واسعة له في ثني مجلس النواب المنتخب، ولا مجلس الأعيان المعين، عن الموافقة عليه، وهو الذي لقي أيضاً قبولاً لدى فئات اجتماعية وحزبية واسعة، ما عكس حالة انقسام ملحوظة في الرأي العام.

سبق أن عرفت البلاد قانوناً للجرائم الإلكترونية صدر في عام 2015، وقد جبّه القانون الجديد. كذلك جرت محاولة في 2018 لسنّ قانون جديد، غير أن الحكومة آنذاك لم تصمد، وأُقيلت حكومة هاني الملقي إثر احتجاجات شعبية، فيما عمدت حكومة عمر الرزاز اللاحقة إلى سحب المشروع الذي أثار حينها جدلاً واسعاً. وهذه المرّة، جاء المشروع الحكومي مشفوعاً بطلب الاستعجال. وخلال أقل من أسبوع، كان مجلس الأمة قد أقره، ولوحظ أن تسعة أعيان من أصل 40 عيناً قد جاهروا برفضهم للمشروع واقترعوا ضده، ينتمي معظمهم للتيار المدني واليساري، فيما نظرت اللجنة القانونية لمجلس النواب في المشروع وأدخلت تعديلات عليه. ولم تحظ مقترحات لعدد من النواب ومطالب لهؤلاء بردّ المشروع وإعادته إلى الحكومة بموافقة زملائهم على التصويت عليها، وجرت الموافقة على المشروع، كما أحيل من اللجنة القانونية، وكما عاد من مجلس الأعيان الذي عدّل عليه.

لم يكن مرور مشروع القانون عبر القنوات الدستورية مفاجئاً، فتركيبة مجلس النواب الحالي (130 عضواً) أقرب إلى التناغم مع الحكومة. كما يدرك المعنيون بالأمر أن القانون ينسجم مع قوانين مماثلة في عدة دول عربية، وأن هناك توجهاً عربياً عاماً لدى الهيئات الإعلامية العربية الرسمية بضبط المجال الإلكتروني، بعد أن اتسع نطاقه، وأصبح متاحاً لكل من يرغب في الخوض في الأمور العامة، وأحياناً الأمور الخاصة للغير. غير أن صدور القانون أشاع مع ذلك جواً من التوجّس لدى الناشطين والمهتمين، ومن في حُكمهم، فقد جاء الإعلان عنه بعد صدور منظومة التحديث السياسي والتشجيع على إنشاء أحزاب، والمشاركة بها من الجميع، بمن في ذلك طلبة الجامعات (في الأردن 22 جامعة حكومية وخاصة) مع تخصيص نحو 40 مقعداً للأحزاب في البرلمان المقبل بعد عام، تمهيداً للانتقال إلى تشكيل حكومات برلمانية. ويتساءل المعترضون كيف لمترشّحي الأحزاب أن يشعروا بجو من الأمان والأريحية في استخدامهم تقنيات التواصل الحديثة في حملاتهم الانتخابية، ما دام يمكن استخدام القانون الجديد في تقييد حملات النقد للأداء الحكومي تحت طائلة توجيه الاتهام بالذم والقدح؟

وهناك سبب آخر وراء شيوع حالة الحذر لدى المعترضين، من دون إنكار وجود طيفٍ واسعٍ من المؤيدين، في أن مشروع القانون أخذ طابع الاستعجال، من غير فتح الحكومة حواراً بشأن المشروع مع نقابتي المحامين والصحافيين، ومع الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، ومع شخصيات أكاديمية وعامة، قبل بلورته وإحالته إلى مجلس النواب. والرأي هنا أنه كان في الإمكان التوصل إلى توافقات واسعة على الخطوط الرئيسية للقانون، إذ إن هناك إدراكاً عاماً بأن الفضاء الإلكتروني، الذي لا يحدّه حدّ وتهبّ منه على مدار الساعة كل أنواع الرياح من داخل البلاد وخارجها، بات حقاً بحاجة إلى ضبط وتنظيم. ولئن كان من الصحيح أن حواراً سابقاً أجرته حكومة الرزاز قد أدى الى سحب مشروع قانون سابق، فقد كان في الوسع توجيه الحوار هذا المرةّ نحو هدف إصدار قانون جديد، مع طرح خيار سحب المشروع جانباً.

وفي هذه الأجواء، جاء لقاء الملك عبد الله الثاني بوفد من المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومن نقابة الصحافيين، الثلاثاء 15 أغسطس/ آب الجاري، حيث شدّد على التزام الأردن بالتعدّدية السياسية والإعلامية، وعلى أن الأردن “ليس دولة تعسّفية ولن يكون أبداً”. وفي هذه المناسبة، أعلن الملك عن توجيهه الحكومة “إلى مراجعة مشروع قانون ضمان حق الحصول على المعلومات، بما يكفل حق الجميع في الحصول على المعلومات الصحيحة والدقيقة وبشكل سريع، مما يساهم في الردّ على الإشاعات والأخبار الكاذبة”. وكان حقّ الحصول على المعلومات من الجهات الرسمية في عداد المطالب الدائمة للجسم الإعلامي ونقابة الصحافيين، علماً أن قانون مكافحة الجرائم يقيّد تحت طائلة المسؤولية الجنائية الدخول إلى مصادر المعلومات بغير إذن أو تخويل أو بما يتعدى نطاق التصريح به لصاحبه.

وقد أشاعت التصريحات الملكية، وكذلك الاهتمام، على أعلى مستوى، بمخاطبة الرأي العام حول هذه المسألة، جواً من الارتياح، وخصوصاً مع التأكيد الملكي أن “مكافحة هذه الجرائم يجب ألا تكون على حساب حقّ الأردنيين في التعبير عن رأيهم، أو انتقاد السياسات العامة”. أما التصريح الملكي “إن تطبيق قانون الجرائم الإلكترونية سيكون العامل الحاسم في الحكم عليه ومراجعة بعض بنوده، بالتعاون مع الجميع، كما هو الحال في باقي التشريعات”، فإنه فتح الباب أمام فرصة مراجعة القانون وإدخال تعديلات عليه، وهو ما ألمحت إليه أوساط من دوائر عليا، عقب صدور القانون.

 

والبادي أن الهدف المنظور من إعداد القانون وصدوره في هذه المرحلة وضع كوابح قوية أمام الفيض المرسل في ما لا يُحصى من محتويات الوسائط والأدوات الإلكترونية، وذلك من أجل ضبط التدفق العشوائي لهذه التيارات، ووضع أصحابه أمام تحدّي المسؤولية عما يبثّونه ويدوّنونه، بحيث تؤدّي هذه الصدمة إلى فرملة حالة السيولة التامة، والتذكير بأن الكلام متى ما صدر في نطاق علني عام قد يكون “عليه جمرك”، وذلك قبل العودة إلى حالة من التوازن عبر مراجعة القانون وتعديله بما يجلو ضبابية بعض المصطلحات الفضفاضة، المتعلقة بالذم والقدح لهيئات رسمية وموظفّين عامين، وباغتيال الشخصية، وبما يحدّ من تغليظ العقوبات.

وبما أن المرحلة “الانتقالية” المتّسمة بالضبط الشديد سوف تمتد إلى ما بعد انتخاب مجلس نواب جديد في أغسطس/ آب العام المقبل، فالرهان أن يجرى خلال ذلك مراعاة توجّه الدولة إلى التحديث السياسي، بما فيه ضمان حرية التعبير، وأن يكفّ بعض رواد التواصل الاجتماعي عن إطلاق الكلام على عواهنه.

مقالات ذات صلة