هذا الجدل في السويد بشأن حرق المصحف

عبد الباسط سيدا

حرير- في حديث مع صديق سويدي مطّلع على خفايا السياسة السويدية وخباياها؛ ولديه معرفة وخبرة واسعتان بالأوضاع العربية والإسلامية، ومن أنصار حوار الحضارات والديانات، تناولنا تفسير (وتبعات) ظاهرة إحراق نسخ من المصحف في أماكن وأوقات مختارة بعناية كيدية.

سألتُ صديقي عن احتمال وجود أهداف بعيدة المدى خلف الموافقات الإشكالية التي تمنحها الشرطة السويدية، بناء على حكم قضائي، لأشخاصٍ بشأنهم تساؤلاتٌ كثيرة، تمكّنهم من القيام بأفعال تثير غضبا وقهرا كثيرين بين المسلمين داخل السويد، وعلى مستوى الجاليات والبلاد الإسلامية في مختلف أنحاء العالم؛ أم أن ما يجري لا يتجاوز حدود السذاجة السطحية التي لا تدرك العواقب التي ستترتب على مثل هذه الأفعال في المستقبل المنظور، وعلى المدى البعيد؟ كان جوابه السريع: إنها مسألة سذاجة وعدم إدراك للمسؤولية.

وتوسّعت دائرة المناقشة بيننا لتتناول قضايا فكرية عامة تخصّ العالمين العربي والإسلامي، وأهمية احترام الخصوصيات ومراعاة الحساسيات، وعدم الاكتفاء بالتسويغ النمطي الذي نسمعه هنا وهناك، وهو التسويغ الذي يتذرّع بما ينصّ عليه الدستور السويدي في القسم الخاص بضمان حقّ حرية التعبير.

قلت لصديقي السويدي: القضية التي تغيب عن أذهان مفكرين ومثقفين وسياسيين وإعلاميين سويديين عديدين يروّجون فكرة أهمية احترام قانون حرية التعبير في سياق التعامل مع الكتب المقدّسة لمختلف الأديان، أنهم لا يميزون بين طبيعة علاقة العرب، بل والمسلمين بصورة عامة، مع الإسلام ورمزية المصحف بالنسبة إليهم، وعلاقة الغرب مع المسيحية، وموقع الإنجيل في الثقافات الغربية. كما أنهم يهملون واقع تغلغل الدين وتأثيره الشمولي في المجتمعات الشرقية، وواقع الدين في المجتمعات الغربية. فالإسلام بالنسبة إلى العرب ركنٌ أساسي من أركان هويتهم القومية، وأي مساس به أو برموزه ومقدّساته يعدّ اعتداء على الهوية العربية نفسها بصورة عامة. بغضّ النظر عن طبيعة الأيديولوجيات التي تحاول البناء على تلك الهوية، وتوظيفها لصالح غاياتٍ تعبويةٍ سياسية، كما هو الحال بالنسبة للتعبئة المذهبية التي يعتمدها النظام الإيراني في سبيل التمدّد ضمن مجتمعات المنطقة، مستخدماً القوتين الناعمة والخشنة العارية، إذا صحّ التعبير. كما أن مفهوم الأمة الذي يرتبط بالعقيدة الدينية والدعوة يعدّ، في المنظور الاسلامي العام، مفهوما يتجاوز المجتمعات الوطنية، ويعلو فوق الخصوصيات العرقية والقومية والثقافية أو غيرها، والقرآن يعدّ المركز الجامع بالنسبة لهذه الأمة.

هذا بينما العلاقة بين المجتمعات الأوروبية والمسيحية برّانية، إذا جاز لنا استخدام هذا المصطلح. وما يجعل هذه العلاقة هكذا أنها بين مجتمعات تمتلك هويتها القومية الخاصة، وديانة (المسيحية) وافدة لم تتحوّل بعد، رغم الجهود على مر العصور من الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية خصوصاً، إلى ركيزة أساسية من ركائز تحديد ملامح خصوصياتها القومية؛ بينما أديانها القديمة، ما قبل المسيحية، ما زالت تؤدّي هذا الدور في المناسبات الاحتفالية المختلفة.

ومع تشكل الكيانات السياسية في أوروبا على أسسٍ قومية، ونجاح البروتستانتية في إثبات ذاتها في مواجهة الكنسية الكاثوليكية، وتحرّرها منها، تراجع دور الدين في بناء الإمبراطوريات والدول في أوروبا، وذلك لصالح العامل القومي. وما ترتب على ذلك تشخّص في فتح المجال أمام جهود نقدية كبرى تناولت بالتحليل والتشكيك الإنجيل والكتابات والسرديات المسيحية. وتجدر الإشارة هنا إلى الدور الذي أسهمت به كل من فلسفات عصر الأنوار وحريات التعبير التي ضمنتها دساتير الأنظمة الديمقراطية. ومع ظهور نتاجات فلسفية وأدبية وفنية حديثة تعاملت مع الإنجيل والسرديات المسيحية بمعزلٍ عن طابعها المقدّس، ظهرت كتابات وآراء نقدية حادّة تناولت الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، والمسيحية تفكيكاً ونقداً، بل وصل الأمر، أحياناً، إلى حد الرفض التام لكل ما دعت إليه المسيحية، ويُشار هنا، على سبيل المثال، إلى نيتشه الذي دعا إلى أخلاق النبلاء، لتكون بديلاً عن أخلاق العبيد التي ترسّخها المسيحية وفق ما ذهب إليه.

وربما تلقي هذه التحولات الغربية تجاه المسيحية قسطاً من الضوء على نزوع بعض المفكّرين والمثقفين السويديين والأوروبيين، وحتى بعض المهاجرين ممن يسعون إلى الظهور في مظهر المتحضر المتحرّر عبر أسهل الطرق وأقلها كلفة ومسؤولية بالنسبة إليهم، ورهط كبير من الذين يناقشون ويفتون في بعض القضايا من دون الإلمام بتاريخها وتشعّباتها، أو جملة من الجاهلين بماهية العواقب التي ستترتب على الاستهانة بأبعاد مواجهةٍ غير مطلوبة وغير مفيدة، بل ضارّة وضارّة جدا، مع العالم الإسلامي، الذي يعتبر المصحف كتابه المقدّس الذي تتوافق عليه سائر المذاهب والاتجاهات ضمن الإسلام؛ ويرى فيه معظم المسلمين، بغض النظر عن درجة التزامهم بالإسلام، أساس انتمائهم إلى الأمة الإسلامية، وتمسّكهم بهويتها. كما يُعدّ المصحف، من وجهة نظر غالبية المسلمين، المرجعية القيمية الأهم في ميدان تربية الأطفال، ومرجعية من المرجعيات الأساسية في مجال تنظيم المعاملات.

ما زال مفهوم الأمة يهيمن بقوة على تفكير القسم الأكبر من المسلمين، ومن بين ما يعزّز ذلك غياب الفلسفات والدراسات النقدية التي كان من شأنها فتح الطريق أمام مناقشاتٍ جادّة متمحورة حول طبيعة العلاقة بين النص والواقع، وإمكانية إعادة تأويل النص، بالمعنى الواسع للتأويل، بناء على مقتضيات الواقع المتغير المتجدّد، واختيار الشكل المناسب من أشكال العلاقة بين الطرفين؛ وذلك لتمكين المسلمين من العيش وفق مقتضيات العصر. وعدم إقحام الدين في ميادين لا تخصّه، ولا تمثل وظيفته؛ وهو الأمر الذي يؤدّي، في حال حدوثه، إلى اضطرابات كبرى في مجتمعاتنا المتميّزة بتنوعها الديني والمذهبي والأقوامي. وقد عزّزت تجارب كثيرة مؤلمة شهدتها منطقة غرب آسيا وأفريقيا على مدى المائة عام الأخيرة، وهي المدّة التي تشكل عمر الكيانات السياسة التي استحدثت في العالمين العربي والإسلامي بعد الحرب العالمية الأولى، احتمالية، إن لم نقل يقينة، هذا التوجّس.

وبالعودة إلى ظاهرة إحراق نسخ من المصحف في السويد والدنمارك، نرى أنها باتت تثير امتعاض قطاعات واسعة من الناس في البلدين؛ سيما أن من يقوم بها باسم حرية التعبير، لا يمتلكون أي إسهامات فكرية، أو مؤهلات معرفية، ربما كانت تخفّف من ردّات الفعل بعض الشيء، فمواقف هؤلاء وسلوكياتهم الماضية والراهنة تبيّن أنهم ينشدُون الإثارة وجذب الانتباه، ويبحثون عن انتصاراتٍ شعبويةٍ بغرض تحقيق مآرب شخصية أو إشباع عقد ذاتية مرضية؛ هذا ما لم تكن هناك أهداف أبعد لها علاقة بأجهزة استخباراتية دولية لا تريد الخير للسويد والمسلمين، وإنما تحاول دفع العلاقات على المستوى الأوروبي بين الجاليات المسلمة ومجتمعاتها الجديدة نحو التوتر، وربما الانفجار، ويصبّ ذلك كله في مصلحة المتطرّفين الأوروبيين والإسلامويين. وإذا ما وسعنا فتحة الفرجار، سنجد قوى دولية عديدةً لها مصلحة في إثارة القلاقل والمشكلات ضمن المجتمعات الأوروبية، وفي الداخل السويدي على وجه التحديد، باعتبار أن ما يجري في السويد يؤثّر في الدول الاسكندنافية، وفي دول الشمال والبلطيق؛ ويدفع ذلك كله بنا نحو التفكير في المصلحة الروسية خلف ما يجري.

ولعل من المناسب أن ينتهي هذا المقال بالإشارة إلى المخاطر التي حذّر منها الكاتب السويدي بو روثستين (Bo Rothstein)، والتي يمكن أن تترتب على الاستمرار في إحراق نسخ المصحف، بل إلى مخاطر إحراق الكتب بصورة عامة، بصرف النظر عن كونها مقدّسة دينياً أو مؤلفة من مفكرين زاولوا حرية التعبير بكل جدّية ورقي، فقد عقد الكاتب المقارنة بين ما كان يجري في ألمانيا عام 1933 في ظل الحكم النازي وظاهرة إحراق نسخ القرآن في السويد راهناً. ولقطع الطريق على هذه المخاطر وغيرها، طالب روثستين بالتدخّل لمنع إحراق الكتب بصورة عامة، المقدّسة وغير المقدّسة.

من أراد أن يعبّر عن رأيه بحرية، بعيداً عن الأحقاد، ومحاولات اقتناص الفرص واستغلال الثغرات بأساليب تثير الكراهية، فأمامه وسائل النشر جميعها، المكتوبة منها والمقروءة والمسموعة، ليقدّم من خلالها حججه وملاحظاته وانتقاداته التي يعتقد بصحّتها وأهميتها، في منأى عن إهانة مقدّسات الآخرين، وإثارة مشاعرهم، أو إخضاعهم لصدماتٍ عبثيةٍ لن تؤدي سوى إلى التباعد والتوجّس، الأمر الذي سيؤدّي، من ناحيته، إلى تشكيل المجتمعات الموازية، وهذا معناه مزيد من الفوضى وتفاقم مستوى الجريمة، وهيمنة الأحكام النمطية التي لا تبشّر، في ظل الأجواء التي يعيشها العالم، بأي خير.

مقالات ذات صلة