عن التعديلات القضائية و”الديمقراطية الإسرائيلية”

مالك ونوس

حرير- عادت هذه الأيام خطب المسؤولين الغربيين وتمنياتهم، والتحليلات في الصحافة والإعلام الغربيين إلى الحديث عن “الديمقراطية الإسرائيلية”، ولكن من باب الخوف عليها، و”الأزمة” التي يمكن أن تواجهها نتيجة التعديلات القضائية التي أقرها الكنيست الإسرائيلي قبل أيام، والتي تُقيِّد صلاحيات المحكمة العليا والسلطة القضائية عموماً. وقد انشغل الغرب والمحيط العربي، علاوة على المعنيّين مباشرة بالأمر في فلسطين المحتلة منذ بداية هذه السنة بتلك التعديلات وبآثارها المحتملة، وربما سيبقى منشغلاً بها فترة طويلة مقبلة. ولكن، مع كل ذلك الكم من المخاوف الغربية، وتمنيات قادة الغرب في الفترة الماضية على رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الرجوع عن قراره المضي في إقرار التعديلات، خوفاً من تداعياتها الكثيرة على الكيان الإسرائيلي وإمكانية تسبُّبها بحرب أهلية، إلا أن أحداً من هؤلاء القادة وتلك الصحف، لم يتحدّث عن تداعياتها المحتملة على الشعب الفلسطيني.

ولم يسأل أحدٌ ممن شاركوا في حفلة المخاوف تلك نفسه السؤال البديهي، وهو إذا كان هذا هو حال الفلسطينيين، وما يواجهونه من قتل وحرمان من الحقوق وسرقة للأراضي ومن اقتحامات مدمرة وحروب دورية على مدنه، وغيرها من الانتهاكات، في ظل ما يسمونه “ديمقراطية إسرائيلية”، فكيف سيكون حالهم إن عانت هذه الديمقراطية من أزمة؟ يبدو أن هذا الغرب الذي يعدّ حرية التعبير والحقّ في التصويت والانتخاب، والحقّ في العمل السياسي وتكوين الأحزاب واختيار الممثلين والقادة، علاوة على الحق في الحصول على التعليم والخدمات الصحية والتكافؤ في فرص العمل، هي أهم معايير الديمقراطية، لم يتساءل إن كانت ديمقراطيةً تلك الممارسة الإسرائيلية التي تحرم الفلسطينيين من التمتّع بأيٍّ من تلك المعايير؟

وليس حال الفلسطينيين القاطنين في أراضي 48 أفضل بكثير، وهم الحاصلون على الجنسية الإسرائيلية، ويحق لهم الترشُّح للكنيست والتصويت في الانتخابات، إلا أنهم مهدّدون بفقدان هذا الحق بفعل اقتراحٍ خرج به أعضاء في حزب الليكود اليميني أخيراً لمجرّد أنهم ليسوا يهوداً. كما أنهم يعانون من تمييز عنصري نصت عليه القوانين الإسرائيلية، وقد رصد هذا الأمر تقريرٌ إسرائيلي صدر في فبراير/ شباط الماضي، عما يسمّى “مراقب الدولة”. وأقر التقرير بوجود تمييزٍ واضح على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي بينهم وبين اليهود؛ إذ تُحرم فئة الشباب الفلسطيني في هذه المناطق من التعليم والصحة وفرص العمل، وغيرها من الحقوق في مجالات أخرى، وهو أمر ينتهك أهم معايير الديمقراطية في أي مجتمع.

في إطار حديثه عن “الديمقراطية الإسرائيلية”، لم يلحظ الإعلام والساسة في دول الغرب علائم التمييز العنصري الفاقعة، والتي تحدث عنها الإسرائيليون أنفسهم في تقرير “مراقب الدولة”. كما غاب عن نظرهم واحد من أكثر مظاهر التمييز العنصري وضوحاً، الجدار الإسرائيلي العازل، الذي أنشأه الكيان الإسرائيلي ليحقّق له أهدافاً كثيرة، منها منع الاختلاط بين الفلسطينيين في الضفة الغربية والإسرائيليين في المستوطنات والقرى والمدن التي يقطنها الإسرائيليون والواقعة على تخومه. ولا يأبه ساسة الغرب لممارسة الفصل العنصري بهذه الطريقة، فما يهمهم أن “الديمقراطية الإسرائيلية” تستلهم قيم الديمقراطية الغربية، انطلاقاً من المبدأ المقدس الذي يقول إن الولاء في النهاية هو للديمقراطية مهما كانت الاختلافات السياسية بين المتحازبين كبيرة.

لدى قراءة عناوين الصحف الغربية، وسماع استنتاجات السياسيين والمحللين الغربيين، عند حديثهم عن التعديلات القضائية وأثرها على الديمقراطية الإسرائيلية، تجد أن ما توصلوا إليه يعد أكثر من أمنيات، إنه يجيش بالتوجسات الكثيرة التي ربما يرون أنها مستجدة. فعبارة “الديمقراطية الإسرائيلية ما تزال على قيد الحياة وهي بحالة جديدة”، التي وردت ضمن مقالة في صحيفة وول ستريت جورنال، وعنوان مقالة الرأي في صحيفة نيويورك تايمز الذي يقول “في إسرائيل، الديمقراطية ما تزال قائمة”، لا تحمل رسائل تطمين بقدر ما تؤكّد على وجود تهديدات للديمقراطية كما يرونها.

أمَّن الغرب الحماية الدبلوماسية والرعاية السياسية للكيان الإسرائيلي، ووفّر له التفوّق الأمني والعسكري على المحيط العربي، وكذلك الريادة في مجال الأمن والتجسس السيبراني، لذلك من الصعب على هذا الغرب أن يرى تراجع، بل وحتى انهيار، ما يدّعيه بـ “الفرادة الإسرائيلية”، و”الديمقراطية الإسرائيلية” وسط محيط عربي سمته الاستبداد، كما روّج دائماً. ومن شدة الخوف على هذا النموذج، أصيب الغرب بحساسية تجاه كل ما يمكن أن يشوه تلك الصورة التي وضعها وعمل على نشرها وتكريسها في مخيلة مواطنيه طوال سبعة عقود من عمر هذا الكيان. لذلك، ربما تكون حادثة الإسرائيلي المتطرّف الذي دهس بسيارته محتجّين على التعديلات القضائية في مستعمرة رعنانا، عشيّة انعقاد الكنيست الإسرائيلي للتصويت على إقرارها، وأصاب ثلاثة متظاهرين إسرائيليين بجراح خطيرة، تكون بمثابة الشرخ الذي أصاب تلك الصورة، خصوصاً أنها أتت في ظل التخوف الغربي من اندلاع حرب أهلية إسرائيلية نتيجة التعديلات. ولم يكد بال هؤلاء يهدأ بعد أن اعتاد على تهديدات آلاف العسكريين بالامتناع عن الخدمة الاحتياطية، لتأتي حادثة الدهس وتعكّر مزاجهم، إذ يمكن أن يكون أي حادث شبيه بحادثة الدهس شرارة لاندلاع تلك الحرب.

ما على المتخوّفين أن يوقنوا به هو أنه لن تكون هنالك أزمة ديمقراطية في دولة الاحتلال، والسبب هو أنه لا توجد ديمقراطية حتى يتخوّف عليها كل من عبر عن مخاوفه خلال السنة الجارية. أما من تخوّفوا من التحوّل إلى الديكتاتورية بعد التعديلات القضائية، فالأمر سهل التحقق، إذ ليس من الصعب على الطبقة الحاكمة في دولة الاحتلال إلا تغيير وجهة آلة البطش التي تمارس انتهاكاتها على الفلسطينيين من عقود، نحو الداخل الإسرائيلي. توجِّهُها نحو يهود معارضين وعساكر متمرّدين على الأوامر، ستصنفهم منفلتين وجب ضبطهم، ولن يكون من المستغرب أن تصنفهم خونة ومأجورين، يعملون وفق أجندة الخارج، كما درجت زميلاتها في الديكتاتوريات المحيطة على التصنيف.

مقالات ذات صلة