الصبيان دون البنات يشعلون الضواحي الفرنسية المهمّشة

دلال البزري

حرير- نائل المرزوقي عمره 17 سنة. فرنسي من أصول جزائرية. من أبناء أحياء الضواحي المهمّشة في مدينة نانتير، القريبة من باريس. يمرّ أمام حاجز شرطة، يتوقّف ثم يتابع طريقه. شرطي على الحاجز يطلق عليه النار، من دون إنذار ولا تردّد. هذا كله مسجَّل في شريط فيديو يُذاع على الفور. إنها واحدةٌ من الجرائم التي ترتكبها الشرطة الفرنسية دورياً ضد أبناء المهاجرين المغاربيين، بعد أن تكون أوقفتهم لسحْنتهم السمراء وطلبت هويتهم ودقّقت بسوابقهم، أو اخترعت شيئاً منها. فاشتعلت ضاحية نانتير، ومعها ضواحٍ أخرى حول مدن متفرّقة من فرنسا، حيث يسكن المهاجرون المغاربيون. أسبوع من المواجهات العنيفة مع الشرطة وحرائق بالسيارات والمباني ومكبّات النفايات، وتظاهرات طيّارة من هنا وهناك في الساحات والشوارع المتفرّعة منها. أسبوع من النيران، يتفوّق على حدث آخر قبل ثماني سنوات، أيام كان نيكولا ساركوزي وزيراً للداخلية، يدعو جهاراً إلى “القضاء على عصابة الأوْباش!”؛ أي شباب الأحياء الغاضبين على جريمة مماثلة ارتكبتها الشرطة الفرنسية.

الآن جيل جديد. مراهقون، أعمارهم بين السادسة عشرة والسابعة عشرة. هم الذين أشعلوا نيران الضواحي الفرنسية، وانتظموا عبر المواقع والشرائط والاتصالات الأسرع من البرق. وكان قلق السلطات المرهَقَة أصلاً من تظاهراتٍ سابقة، لم تقلّ عنفاً، معادية لقانون التقاعد الجديد. وفي وسط كل هذه الزحمة، كانت تحقيقات تلاحظ “شيئاً مختلفاً” عما سبق من انتفاضاتٍ أحيائية في الضواحي، فتلاحظ أن الجنس الآخر غائب عنها. خذْ واحداً من هذه التحقيقات: “نرى مشاغبين يرتدون الأسود، ينهبون المحلات، يشعلون النيران في السيارات والبيوت ويعتدون على الشرطة … ولكننا لم نر البنات، لا محجبات ولا سافرات ولا مرتديات الخوذ. البنات غائباتٌ عن أسبوع العنف هذا”. ويتابع صاحب التحقيق متسائلاً عن أسباب هذا الشغور: “هل بقينَ في البيت بناء على أوامر عائلية مشدَّدة؟ أم أنهن قررن بملء إرادتهن المُكوث فيه، والانكباب على دراستهن، لأنهن واعيات بأن التعليم وحده هو مفتاح استقلاليتهن؟”.

يأتي الجواب عن تساؤلات التحقيق مما لاحظه قبله علماء الاجتماع الفرنسيون في ظاهرة البنات المغاربيات القادمات من هذه الأحياء بالذات. وهنا خلاصتها: اليوم، في المجتمع الفرنسي “الخالص الصافي”، يُطعن النموذج التقليدي للرجل من دون هوادة. ما ينعكس على الرجال بموقفٍ دفاعي، ويسهّل فشل المراهقين الصبيان. الطرح اليومي للظلم الذي تتعرّض له النساء، أو تعرّضن له طوال آلاف السنين … يؤجّج اضطراباً ناجماً عن تهميشٍ من نوع جديد تجاه الصبيان، يشعرهم بدورهم بالظلم. ما يدفعهم إلى نوع من الثورة ومن الرغبة بتحدّي السلطات. هكذا، تتقلّص فرص الصبيان، فيميلون نحو المثل الرجالية الآفلة، ويكونوا في اجتماعهم ولقائهم من دعاة الرجولة المنتصرة، التي تتوق نحو التجمّع على أساس الجماعة الواحدة، أو الرهط، لهم طقوسهم وكوداتهم الرجالية وقيم الثأر والقوة والتدمير. والمجتمع لا يستطيع أن يخفّف من ذيول الثورة النسوية المنتصرة، ولا من تعليم الصبيان صفات أنثوية أصبحت هي المعيار مثل الإحساس والتفهّم والغيرية.

يزيد هذا كله في المجتمعات الضواحي المتروكة لمصيرها، والمحكومة بعقلية العائلات القادمة من مجتمعاتٍ محافظة، والمتمسِّكة بقيمها. فهي تعتقد أنها تحمي نفسها بتشدّدها الذي أتت به من بلدها الأصلي. ويكون الأثر مزدوجاً: مراهقون كبروا على صورة الرجل – الذكر التي يبثّها لهم آباؤهم طوال فترة نشأتهم. يلاحظون في أثنائها أن هذه القيم مرذولة وسط انتصار نسوي معنوي غير مسبوق في التاريخ. يحطّ هذا الانتصار من قيم آبائهم، ومن كونهم ذكوراً، يشعرون بالتمييز بينهم وبين البنات، وتنْتَهك بذلك ثقافتهم وقيمهم وأصلهم وفصلهم، فيتغذّون من الحقد على ذلك النظام. ويشتعل غصبهم حريقاً وتكسيراً، إثباتاً لرجولةٍ منتهَكَة. وما يزيد من نقمتهم رؤية أخواتهم يدرسن، يصلن إلى الشهادات العليا، يحصلن على وظائف بمستوى هذه الشهادات، يصلن إلى مراكز عليا، ويتألقن.

من رائدات هذا المسار، رشيدة داتي، من أصول مغربية – جزائرية، ابنة عامل البناء، ومن عائلة مكوَّنة من 11 ولداً وبنتاً، تبوّأت أعلى المراكز: متحدّثة باسم ساركوزي في حملته الانتخابية للرئاسة، وزيرة عدل، رئيسة بلدية، نائبة في البرلمان الأوروبي. وهي أيضاً أمّ لبنت من رجل دارت حوله التساؤلات، لكثرة علاقاته الغرامية العلنية والسرية… وبعد رشيدة داتي عشرات من النساء المغاربيات اللواتي شققن طريقاً عريضاً في السياسة والأدب والبحث والإعلام والعلم الصرف. وكله بفضل التعليم، وتبجيل والمرأة.

يمكن القول هنا إن المراهقين الذين أشعلوا ضواحي باريس هم ضحايا الشرطة وضحايا النسوية المنتصرة. من جهة قمع جسدي، ومن جهة أخرى قمع معنوي. قلّة قيمة، فشل، إحباط وتخبّط.

ما يطرح على النسوية مهمة جديدة، إذا أرادت داعياتها ألا يكون مآل ثورتهن صراعاً، بالأصالة أو الوكالة، بين الجنسيْن، بين عالمَين مغلقَين، بين نوعين بيولوجيين، بين مواطنين متساوين من حيث الحقوق والواجبات. على الأقل كما تدعو إليه ثورة سابقة على النسوية، وفتحت لها الطريق، أي الثورة الفرنسية التي أرْست العدالة والأخوة والحرية. وهذه نقطة ليست هيّنة على فئة النساء التي ظُلمت مطوّلاً، وها هي تصعد نحو حقوقها المطلقة.

هل في وسع النسويات أن يفعلن شيئاً بهذا الصدد؟ ربما. بأن يخرجن من الغيتوهات الفكرية التي يعتمدها نهجهن النسوي. والتي أفرزت حالة مستوطنة في قلب فكره، والقائلة إن النساء لا يهتممن إلا بالنساء، والرجال بأشياء أخرى. ومع الوقت و”الانتصارات النسوية”، تراكم لدى الرجال جهلٌ بأنفسهم، نقمة وثأر على رجولتهم المنْكسِرة يومياً في أقوال النساء وأفعالهن، وقد أصبحت “ترينْداً”، صواباً سياسياً، مدعوماً ومنتشراً ومستهلَكاً… حتى بلَغته الركاكة والرتابة والكليشيهات.

يحتاج الإنسان الذي يولد ذكراً، منذ أيامه الأولى، وحتى شيخوخته، إلى دراسة ما أصبحت عليه ذكورته. تماماً كما هو حاصل الآن مع الأنوثة، وأيضاً دراسة التفاعل بين “علم النسوية” والموروث الذي يقاومه. وقد يكون هذا التفاعل قائماً على الفصل بين الرجولة والذكورة. بين الأولى، الرجولة، قيم الشهامة والنبل والمسؤولية والعقل، والثانية، الذكورة، قيم التسلّط والتفوّق والأنانية، وإلا تحول الرجال إلى غاضبين عدميين، أو إلى رجالٍ منزوعي العَصَبْ… والجاذبية. لا همْ ذكور، ولا همْ رجال.

مقالات ذات صلة