الخطاب اليهودي الأخير لإدوارد سعيد

مهنا الحبيل

حرير- “كان فرويد، على ما يبدو، يؤمن حذو لامارك بأن النزعات الشخصية المتأصّلة في النفس اليهودية، تنتقل وراثياً، حتى الملحدون من أمثال فرويد محكومون بأن يرثوا حصتهم منها (…)” … إدوارد سعيد

ألقى إدوارد سعيد محاضرة “فرويد وغير الأوروبيين”، التي استضافها متحف فرويد في لندن في 2002، كما يُفهم من سياق ورقة جاكلين روز، وتعليقها على إلغاء محاضرة سعيد قبل ذلك بعام في فيينا، وهي فعالية نُظّمت في ذكراه في العاصمة النمساوية، باعتبار سيغموند فرويد طبيباً نمساوياً، في عام 2001. ودُعي سعيد لإلقاء محاضرة فيها، ولكنها ألغيت بحجّة صراع الشرق الأوسط، وهي إشارة سلبية من المنظّمين في اتجاه سعيد، بسبب نقده المركزي الصهيونية.

جاء كل هذا التفصيل في ورقة أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة لندن، جاكلين روز، وهي ذات اتجاه نسوي مُغرق، وقد تداخل في بعض نظرياته، حسب ترجمتها، مع مذهب فرويد النفسي. وروز هي المُعقّب الذي قدّم ورقته للتعليق الرئيسي المطوّل على محاضرة سعيد، وربما الرابط هنا لمتحف فرويد في لندن في الندوة التي أدارها كريستوفر بالاس، مع جاكلين روز، هو يساريتها ونقدها الصهيونية، ولكن ما أفصحت عنه روز، هو يهوديّتها أيضاً المتداخلة بجدل نظرية سعيد في المحاضرة.

ويبدو نصّ سعيد معقداً في القراءة الأولى، خصوصاً أنهُ يُفكّك نظرية فرويد، في الوقت الذي يشير إلى أزمته الاستتباعية للروح الكولونيالية، التي سادت في أوروبا، وكانت عند ذلك الوقت في ذروتها، في الحملة الفكرية على يهود أوروبا، وانتشار العقيدة النازية، قبل اندلاع الحرب العالمية التي لم يُدركها فرويد. وبالتالي، غاب عن فرويد استشراف المآل الأخير، للصعود العنصري في أوروبا، الذي لم يكن محصوراً في النازية، وهي نقطة نظام فلسفية مهمة. وبالتالي، يتضح لك في زاوية سعيد هنا فيها بعداً آخر، وخصوصاً حينما استدعى فرانز فانون، المقاوم اليساري الصلب، ضد الرؤية الغربية الكولونيالية، وأرضيتها الفلسفية في علوّ كعب وتمايز الذات القومية الغربية المسيحية، مقابل روح فرويد التي سيطر عليها اندفاعه نحو إقناع الغرب، بأن الذات اليهودية في أوروبا، ذاتٌ غربية وليست شرقية، بمعنى صناعة جسر توسلي لصالح ضم الكتلة اليهودية للأممية الغربية، وإسقاط اتهامها كأمة ذات جذور أو روح انفصالية يهودية، فهي مرتبطة مع هذه الأممية الغربية…. إذن، أين هو المنظور الدلالي، الذي سعى لتحريره سعيد؟

ركّزت نظرية المحاضرة على كتاب فرويد المهم “موسى والتوحيد”، ومركز الاستدلال أن فرويد ذهب، في كتابه الذي أثار جدلاً كبيراً ومعارضة يهودية، إلى أن موسى كان مصرياً، ولم يكن يهودياً عابراً. وتؤكد روز، كما هو لغة سعيد الصعبة في وضع التصور النهائي عن نظرية فرويد، أن موسى (ويُقصد به نبي الله موسى عليه السلام) اندمج مع أهل الأرض المصريين، ولم يُشكّل مشروعاً يهودياً منفصلاً. فهذه النقطة التي ركّز عليها سعيد، وكأنها العامل المشترك مع متحف فرويد، باعتبار أن موسى هنا هو مواطن يهودي يجب أن يندمج مع أمم الشرق، وألا ينفصل بمشروع صهيوني كياني، يتميّز به على أهل الأرض، فهي اليوم دلالة سعيد للشعب الفلسطيني، ولكنها ليست لموقف متحف فرويد.

وفي ورقة روز المهمة، والتي تحتاج استفاضة مستقلة، خصوصاً حين تعرّض الدمج بين يهوديتها ويساريّتها، ثم تفاجئ المستمع بدعواها، بأن اليهودي كان في الغرب ذلك الزمن هو اليساري الوحيد، فهي تعرض هذه اللافتة، بعد سردية مهمة لحجم الاضطراب الذي عاشه المجتمع اليهودي في أوروبا، وحمولات القلق والصخب النفسي، والمحرّرات الفكرية التي حاول العقل اليهودي تقديمها، لذلك المسرح الثقافي، الباحث عن صناعة فوقيّته القومية، أو خصوصيته الوجودية، والتي بُنيت عليها ثقافة الإبادة ذلك الزمن، ولم تكن بين أراضي العرب، ولا بين ازدحام أمم الشرق المسلم، الذين شاركهم اليهودي الإنسان حياته، ولكن كل هذا الموج الهائل من اضطراب الأفكار، وتيه الشخصية الذاتية والمجتمعية لليهود، كان محاصَراً بأسوار الغرب الشائكة، وبضغطه العنصري الشرس، الذي حاول فرويد ذاته التقرّب منه.

لقد حاولت روز تفكيك محاضرة سعيد، ونجحت في ذلك، غير أن السياقات ظلّت مضطربة لهذه الافتراضات في فهم حياة اليهودي الآخر، قبل الحرب العالمية الثانية ومجازرها، ولكنها سعت لتعويم فكرة سعيد، لأجل مصالحة مع مجتمع يهودي ثالث، كان هو من نظّم فعالية ذكرى فرويد النمساوي، مشيرة إلى صعود اليمين النمساوي في وقت الذكرى، وأنها رُبطت بهذا الصعود، وكأنه تذكرة لمعاناة اليهود، وقالت إن المنظمّين لو سمعوا محاضرة سعيد اليوم لما ألغوا محاضرته.

مثّلت هذه المرحلة الأشهر الأخيرة من حياة سعيد، قبل وفاته في 2003، وهي عبورٌ صعب لمعاناته مع المرض العضال. ولذلك استمرّت تفاعلات سعيد مع أصدقائه اليهود، من ذوي النزعة اليسارية المشتركة، وهناك بالمناسبة شخصياتٌ يهودية عديدة في الغرب ذات روح نقدية قوية، ضد ثنائية الإبادة الصهيونية والإبادة الغربية المسيحية، ونقد مآلات الحداثة.

تقف بعض رؤى الشخصيات الناقدة للصهيونية عند حدود إدانة مركزية الدولة الإسرائيلية، وسلوكياتها الإجرامية، لكنها لا تمسّ حق الوجود، وبعضها مرتبطة بحالات من التوظيف الحداثي الذي يُستثمر غربياً، في مسارات جدل الجندر والأنوثة الانعزالية، وبالتالي، هناك تداخل مع البيت الأوربي الغربي الكبير. لكن لفكرة سعيد والنصوص التي عرضها مسارٌ متوافق ومتتالٍ، يدمج تاريخ هذه الفلسفات الباحثة، أو التائهة، بعربة الغرب القديم، ليُعيد طرح عقيدة سعيد وتوثيقها…. من بعث فكرة الكراهية، ومن اضطهد الإنسان الآخر، ومن صدّر أزمتها لفلسطين؟

ويبقى أن لسعيد جاذبية سعى إلى ترسيخها قبل وفاته، مع الحلف اليهودي الآخر، تدور حول الفرز بين الهوية الفطرية والمشاركة في كتلة الحركة الصهيونية، تحتاج إلى مراجعة فكرية.

مقالات ذات صلة