من لغو الصيف

كمال عبد اللطيف

حرير- لا يحيل هذا العنوان إلى محتوى مقالات كتاب طه حسين، الصادر بالعنوان نفسه سنة 1959، رغم المشترك الجامع بينهما، والمتمثل في العنوان وفي مقالة الرأي التي حررها الكاتب في عزّ حرّ الصيف وغليان أجوائه. وقد صادفت حرارة هذه السنة حرارة إضافية، ارتبطت بأيام عيد الأضحى بكل ما تحمله من طقوس وحكايات وموائد، رغم أنه لا شيء أحلى في الصيف من الماء والبحر وأمواجه ونسائمه، ففيه تبدأ عمليات الإصغاء لأحوال الجسد ونداءاته، لكن لا أحد يسمح لنا بفسحة نختلي فيها بأنفسنا أمام البحر، لنسمع صوت الموج ونلمس برودة الماء وحرارة الرمل، ونتأمل السماء التي تبدو في الأفق البعيد، وكأنها تلامس الماء وتلاعب الموج والرّمل، تلاعبه في الصباح والمساء ودون توقف.

نقرأ في بعض مقالات “من لغو الصيف”، أحاديث عن الخيال العاقل وأخرى عن العيد، ونقرأ مقالاتٍ يتحدّث فيها الكاتب عن بعض أصدقائه، مستعيداً جملة من القضايا التي تناول بعضها في كتبه الأخرى، أما أنا، فأقترب في لغو الصيف من حادثة غرق سفينة شركة السياحة المُغَامِرَة، التي نقلت خمسة من أثرياء العالم بمبالغ مالية كبيرة، لرحلة سياحية في قعر المحيط الأطلسي، قصد زيارة ما بقي من حطام سفينة تيتانيك، التي انفجرت منذ أزيد من مائة سنة في قعر المحيط. أقترب فيها من الغوّاصة، محاولاً فهم ما جرى. فقد توالت أخبار فرق البحث عنها، وعن ركّابها الذين نزلوا قعر المحيط الأطلسي، في رحلةٍ لا تخلو من غرابة، رحلة تروم معاينة حطام تيتانيك، تشابهت الأخبار بعد تحطّم الغواصة، وتواصل البحث من جهاتٍ متعدّدة، عن الغواصة الجديدة وما لحقها في قعر المحيط، ثم توالت الأيام، فلم أعد أهتم بأخبارها.

بَدَأْتُ في الأيام الموالية للحادث، أفكّر في انفجار الغوّاصة وغرقها، ثم فقدان الاتصال بمن كان في قلبها. ولأنني تأثرتُ كثيراً بالحادثة وبكل ما صاحبها من انفعالات، ولأن الأخبار التي توالت عنها لم تكن واضحة، حاولتُ تجاوز ما حصل، ووَجَّهت نظري نحو الحوار الذي تصوّرت أنه كان يدور بين ركّابها الخمسة، قبل انتهاء كمّية الأوكسجين المُعَدَّة لزمن الرحلة، بدأت أستمع إلى ما كان يدور بينهم، ألتقط أصواتهم المُنفعِلة وهم في قلب الغوّاصة الثمينة والمُعدَّة بعنايةٍ تضاهي الثمن الذي دفعه ركّابها، كان ركّاب السفينة الجديدة وهم يحلمون برؤية حطام “تيتانيك”، رؤية بقايا سفينة كبيرة غرقت ومات ركّابها. كان ركّاب السفينة الجديدة يحلمون برؤية شعرية للحُطام، وينعمون بجولة في الأعماق السفلية للمحيط بكل ما تحمله من مفاجآت. كان من بينهم صاحب الشركة التي تشرف على السياحة المُخَاطِرة والعاشِقَة للأحاسيس المُرعِبة والمخيفة! وأنا أسترق السمع لما دار بينهم، في اللحظات التي تلت انفجار الغوّاصة، تساءلت: ماذا حدث؟

امتلأت فضاءات التواصل الاجتماعي بالجواب على سؤالي، ولم ينتظر المؤثرون الجُدد من قاطني طبقات مجتمع الشبكات، لم ينتظروا أخبار الجهات المتخصّصة في عالم البحار وعلومها، ومعطيات الجهات المهنية المهتمة بسياحة المخاطر، بل انخرطوا في توصيف ما حدث بالطريقة التي تناسبهم، وتنسجم مع قناعاتهم وحساباتهم الخاصة… وجدتُ نفسي أمام جيشٍ من المتربّصين بالحدث، وقد انخرطوا في تذكير الجميع بقصة غرق سفينة نوح، واتّجهوا إلى التذكير، أيضاً، بخطورة الأمواج العميقة في أعماق المحيطات والبحار… فتخلّيت عن السياحة المغامرة والغوّاصة الغارقة، ولم أعد أفهم علاقة ما يكتبون ويقولون بما حدث، فقد كان غرق الغوّاصة، في البداية والنهاية، مجرّد مناسبة لأحاديث جاهزة في الوعظ والإرشاد.

تخليت عن المتابعات التي انفجرت في الفضاءات الافتراضية لأتوقف، مرّة أخرى، أمام تحطّم قاربٍ يحمل فئات الشباب المهاجر من ليبيا إلى إيطاليا، من أجل تحقيق أحلامه في العيش الكريم. وجدتُ نفسي وأنا أنتقل من غرق الغوّاصة الحاملة خمسة من المُتْرَفِين، إلى غرق السفينة المطاطية الصغيرة، التي كانت تحمل أزيد من 700 راكب من الرجال والنساء والأطفال… توقّفت أمام المقارنات المتداولة عن السفينتين، وهي مقارناتٌ يتحدّث فيها الفاعلون الجُدُد، عن غياب العدل بين ركّاب الغواصة وركّاب السفينة المطّاطية، من الشباب الهارب من جحيم الحياة نحو جحيم آخر، حيث انتهى الأمر بركّاب القارب المطّاطي في قعر البحر الأبيض المتوسط، بالقرب من الشواطئ اليونانية… فكيف يمكن المقارنة بين الاثنين؟

فاضت فضاءات التواصل الاجتماعي برطانة التقليد، وفوضى المقارنات التي تنطلق من الجمع بين ما لا يمكن الجمع بينه، وأنتج المدوّنون المتربصون بعالم الشبكات، خطابات تذكّر بحدود العِلْم، ومحدودية ضمانات التقنية وكشوف العلم المعاصر، في الأرض وفي السماء، وفي عالم البحار والمحيطات… انتبهت إلى وجود خطاباتٍ أخرى، نظرتُ إلى الحادثة من زاوية أخرى، مُحاولةً إبراز مخاطر الاستهلاك وجنونه، مخاطر الوكالات السياحية المتخصّصة، في الرحلات السياحية صوب قعر المحيطات، قصد معاينة صور جبال الجليد المستقرة في بعض أرجائها، ومعاينة نوعية الأمواج العالية التي تتلاطم داخلها، أو تتّجه صوب نجوم السماء بأضوائها وبريقها، وبكل ما يحتمل أن تستوعبه مساحاتها من كائنات مختلفة، عن نوعية الكائنات التي نعرف في الأرض، ونعرف جوانب من تحوّلها أو تطوّرها أو اندثارها… وتذكّرت أن هذا موضوعٌ أثيرٌ لدى حرّاس التقليد في عالمنا، وأنهم اليوم أعدّوا المليشيات القادرة على ملء الشبكات بالحكايات المطلوبة لمزيدٍ من ترسيخه.

تحطّمت الغوّاصة ولا نعرف ماذا جرى بعد ذلك… كما لا نعرف مصير من كانت تحملهم. وقد تكون “التيتان” قد تحولت اليوم إلى حُطام مجاور لحُطام أختها الكبرى تيتانيك، وبدأت تستقرّ في قعر المحيط بحيواته وحيواناته، ومختلف الأصوات والحركات التي تستوعبها فضاءاته داخل الماء، وعلى بعد ما يقرب من ثلاثة كيلومترات من اليابسة، من الأرض والبشر، ومن الأحلام والجنون والموت والحياة. تحوّلت إلى حُطام يغري آخرين غداً بزيارة الحُطامين معاً، وعلينا أن ننتظر قليلاً، لنعرف قليلاً أو كثيراً مما حصل. وفي كل الأحوال، أتصوّر أنه ستكون هناك محاولات للاستفادة من ذلك كله، من أجل غوّاصة أكثر قوة وأكثر قدرة على مغالبة ظلام أعماق المحيطات.

 

مقالات ذات صلة