أوضاع أوروبا بين الاستراتيجيات والشعبويات

يقظان التقي

حرير- تحدّيات عديدة يُنظر إليها في أوروبا خلال العام الجديد تتطلّب جهوداً إضافية لمعالجتها، واستمرار روح التعاون التي تم اكتشافها في خضم الأزمة الأوكرانية، مع تقدّم حرب الجغرافيا على مجتمعاتها، وسيكون فيها انتصار الرئيس الروسي، بوتين، مأساة بالنسبة للأوكرانيين، لكنه سيشكل خطراً على أوروبا، ما يستدعي مواجهة ظروفٍ مغايرةٍ تماماً. تستكمل أوروبا مسألة الخروج من الانكماش الاقتصادي، أزماتها المالية، أزمة الغاز والطاقة، الأزمة الغذائية، قانون الحمائية الأميركية. وتتركز الجهود أكثر حول قضايا اجتماعية، يستفيد منها أقصى اليمين في الوصول إلى السلطة، في نسق خطاب قومي، يسهر معه أعضاء الاتحاد الأوروبي في الحفاظ على نموذجهم، على الرغم من النزعة فوق الوطنية التي يبديها. الدولة والحدود مرتبطتان بشكل أساسي، ولا يمكن أن تتمتّع الدولة بالديمقراطية وتطبيق القانون والسلطة في حال فتحت حدودها في التجارة والصناعة، والهجرة أمام الدول الصديقة والمنافسة، فتفقد الدولة خصوصيتها الوطنية.

السؤال المطروح بقوة في عام 2023: ما الذي سيكون عليه موقف بلدان أوروبا، لو تأزمت الأوضاع بين الولايات المتحدة والصين. بانتظار الأوضاع الاجتماعية المنهارة، تدور معها عجلات أقصى اليمين بأقصى سرعة، ولا أحد يعرف، على ماذا سترسو هذه الظاهرة اليمينية، بين الاستراتيجيات والهويات. تريد الحكومات الأوروبية أن تظهر أنها قادرة على تطبيق إصلاحات في البلاد، تحدّ من حدّة الخطب الشعبوية، ومخادعة التكوينات الجديدة “بإعادة السحر إلى العالم”، عبر تقديم المساعدات الاجتماعية قرابة 400 مليارات يورو للتخفيف من عبء الأزمات. ولكن لن يطول الأمر حتى انكشاف أزمة تلو الأخرى، تطاول الأبعاد الاجتماعية، كما الأبعاد الأخرى، فالدولة ليست سوى صندوق متقدّم من البرجوازية، يقف وراءها نظام من المعاقل (أنطونيو غرامشي 1891-1937). ترتفع وتيرة النقاشات في البرلمانات بشأن مشاريع قوانين الهجرة، والتركيز على استقطاب اليد العاملة، وبرامج التنمية، وخطط إنعاش القطاعات العامة التي دخلت نفقاً مظلماً، والقطاعات الأخرى تلامس انهيارات، في فترة خارجة عن المألوف، والإحساس في أوروبا أنها ضحية كل أنواع التلاعب، وبكل الحرية التي تحمل معها معنى المخاطر. تشهد أوروبا انخفاضاً في الناتج المحلي الإجمالي قرابة 4.6%، والركود المتنامي بسبب أزمة الديون السيادية، فتمتزج النيوليبرالية بالتشكيك في أوروبا بالرأسمال الرمزي، المتوفّر على الدوام. ولكن لا أحد يدّعي احتكار إدارته (بيار بورديو 1930-2002)، وأيضاً بكراهية الأجانب، في إسباغ معنى جديد على أوروبا. السؤال عن مدى تجسيد التعاون بين دول الاتحاد الأوروبي في الفترة المقبلة، خصوصاً إذا ما انتهت الحرب الأوكرانية. أوروبا معنية بالبحث عن حلول لها، ودراسة كيفية التعاون في إعادة البناء مع فلاديمير بوتين، أم سيستغنى عنها ويُكتفى بالوضع الحالي. أوروبا بحاجة إلى تجسيد قوة اقتصادية مشتركة بين دولها، إذ من المحتمل التفاوض لاحقاً على تقسيم الأراضي الأوكرانية من خلال انعدام حلول أخرى، ولا يمكن تجاهل روسيا حتى بعد هزيمتها، فيما تفوز أميركا دائماً في الأزمات. قضايا أخرى مختلفة في الواجهة أيضاً؛ سعي ألمانيا لإعادة تسليح قواتها (100 مليار دولار)، ارتفاع موازنة النفقات العسكرية في دول حلف شمال الأطلسي (2% من الدخل القومي)، استراتيجية أوروبا للعيش من دون نفط، وربح معركة التحول البيئي، وحسن استخدام الطاقة النووية، مسألة أوروبا الشرقية، مستقبل العلاقات التجارية مع الصين. لكن أكثر من يقلقون أوروبا هم الأوروبيون في حياتهم اليومية، وقد أنهكتهم التحدّيات، ما يؤدّي إلى نفاد صبرهم، في معركتهم ضد التضخّم. أسباب كامنة وراء التخوّف من تقدّم اليمين، واستراتيجيته الموجّهة نحو الاستيلاء على مختلف مستويات المجتمع المدني المتتالية.

عكست الإثارة التي رافقت فوز الائتلاف اليميني الإيطالي، بزعامة حزب “أخوة إيطاليا”، المتطرّف، مؤشّراً رئيساً ليس فقط في إيطاليا، بل في أوروبا، لجهة التغير في مزاج المقترعين في المدن الصغيرة والمناطق البعيدة، وعدم انتظام الأوضاع السياسية والاقتصادية، والديمقراطية التمثيلية، وأجسام سياسية غامضة، والشخصانية السياسية. إنها بنية النظام السياسي الأوروبي، ككل، تعاني شقوقاً، بحيث بات اليسار واليمين يتناوبان على السلطة من منصّات متباعدة عن الناس، ومشكلاتهم، وهمومهم، وفقرهم، وأحوالهم. دول تعاني من الانقسام العمودي بين النخب في المدن الكبيرة، والضواحي والأرياف. بنية تراكمية من انهيارات اقتصادية وأعباء اجتماعية أدّت إلى الارتباك والغضب الشعبي، وفي القسمة العضوية بين الأصوات وتداخلها بين اليمين واليسار، فالسلطة لم تعد منفصلة بمشكلاتها، بفعل العولمة والاتحادات، والنقابات، والمنظّمات، والمصارف، والتبادلات، والتكنولوجيات، والأسواق، وأخطاء في عمل البنوك المركزية خلال أزمة كورونا، فقدت معها بعضاً من استقلالها الاقتصادي، وصولاً إلى مشكلات الهجرة والهوية.

لا تخلو صحيفة أوروبية يومياً من الإشارة إلى قوارب المهاجرين الهاربين من سوء الأوضاع في بلدانهم إلى شواطئ القارّة الأوروبية، بحثاً عن حلم الحرية والديمقراطية، فيواجَهون بالحياة العسيرة، وتفاوت أوضاعهم الهشّة، وبرفض إعطائهم حقّ اللجوء. ظاهرة لا تبدو معزولة عن الجوار في مخيمات المهاجرين، وعمليات الرقابة والتفتيش وموجبات المغادرة. تتطلّب الأوضاع المتطرفة تصويتاً متطرفاً. ولكن، ليست كل الأصوات الذاهبة إلى اليمين ملتحقة بهذا البرنامج. ليست الأحزاب اليمينية الأوروبية معجبة بسطوة بروكسل، ولا قراراتها، وبرامجها، باعتبارها تنتقص من السيادة الوطنية.

ما وراء الانتخابات ثمّة مصالح وتمويلات، ومساعدات، وديون، وتشابك مصالح. يشير هذا كله إلى مراحل انتخابية، وأوضاع سيئة، غير مستقرّة على جبهتي اليمين واليسار، ولا تملك الأحزاب، على اختلافها، حلولاً سحرية لمشكلات متفاقمة، فتعادي النظام بشكل تقليدي، فأوروبا ليست في مأمن. إنه المعنى السياسي لما يجري، لحظة افتراق بالديمقراطية، والمساواة، والعقلانية، فيستسلم الناس إلى مشاعرها العنصرية وتعسفها، ومخاوفها ـ وتقلب الطاولات على الحكومات كأقرب الحلول الشعبوية، فتدير دول عديدة ظهورها إلى قيمها التاريخية كنموذج للتعايش والتسامح والمساواة، ويتردّد فيها حجم مأساة المهاجرين. معظم التحالفات لا تصمد كثيراً. ما عادت الأيديولوجيات الحزبية، ذات اليمين وذات اليسار، تتحكّم بالحالات السياسية التي تشهد تناقضات صارخة. ولم يعد بمقدورها التسبّب بتغيرات جذرية سياسية. ستحتاج الحكومات الأوروبية إلى طريقة إيقاعية إبداعية في موضوع إدارة أزماتها، منعا لظاهرة الانشقاق الكبير للرأي العام. يُظنّ أن وجه أوروبا يتغيّر مع استنفاد الديمقراطية التمثيلية وسائلها، فتستجيب المجتمعات الأوروبية إلى هذا النوع من الشعبوية في المفهوم الذي أقره جان ايف كامو، والتي لا تعني أفكاراً كبرى انتهت منذ مدة تاريخية.

مقالات ذات صلة