من أوطان الموت إلى قوارب الموت

سوسن جميل حسن

حرير- أطلق عليه العرب قديمًا اسم “بحر الروم”، وهو حوضٌ مائيٌّ تحيط به ثلاث قارّات: آسيا وأوروبا وأفريقيا. يُعتبر من أهم البحار بالنسبة لطرق الملاحة بسبب موقعه بينها، كما تربطه قناة السويس بالبحر الأحمر وقناة البوسفور بالبحر الأسود، فكيف لبحرٍ يختصر كلّ هذه المسافات فيقرّب بين البشر، أن يكون بهذا الجبروت؟ هل سيبقى اسمُه البحر الأبيض المتوسط؟ أم يليق به أن يكون بحر الموت، بحر المدافن بلا هويّة، بحر الحداد؟ أم البحر الحزين الباكي قدره الغاشم، أن يحيله الصراع العالمي بين القوى الجبّارة المستكبرة إلى حوتٍ يبتلع بؤساء العالم، أولئك الذين تخلّت عنهم أوطانهم، وباعتهم أنظمتهم، ولعبت بهم الصراعات السياسية، فأحالتهم إلى كائناتٍ ورقيةٍ أو خشب احتراق في مطابخهم الجشعة؟

ليست المرّة الأولى، فالبحار والبراري والصحاري والجبال والوديان والغابات والثلوج، تبتلع الآلاف في كل عام، لكن مغامرة الهجرة لا تبارح خيال الشعوب المقهورة مُجهضَة الأحلام، التي تنزلق إلى حضيض من الجوع والفقر والحرمان والقمع وانغلاق أفق المستقبل في وجوهها، بينما العالم لا يتورّع عن إشعال الحروب، في صراع محموم على السطو على مقدرات الشعوب ومواردها وثرواتها، ويُنصّب على رؤوسها حكّامًا يضمنون له مصالحه ويحمونها.

الهجرة، حتى لو كانت بقرار ذاتي، فعلٌ قسريّ، يتّخذه الإنسان بإكراه الظروف وليس حُراً، وهي أهم مشكلات العصر، فالعنف والجوع دفعا عشرات الآلاف من هندوراس، نيكاراغوا، السلفادور، غواتيمالا، إلى الهروب باتجاه الولايات المتحدة، غير أن رئيسها السابق، دونالد ترامب، أغلق الأبواب ورفع السدود في وجوههم. وبطش النظام العسكري في ميانمار دفع مئات الآلاف من مسلمي الروهينغا للهروب إلى البلد الجار بنغلادش، الذي لا يقلّ فقرا عن ميانمار. أمّا جمهورية أفريقيا الوسطى، فمعروف أنها تملك ثروات معدنية كثيرة وأراضي واسعة خصبة؛ لكن الحرب الأهلية والنزاعات مع البلدان المجاورة، إضافة إلى توالي الحكومات الفاسدة وتنامي الإرهاب الإسلاموي، أسباب دفعت كثيرين إلى البحث عن أماكن آمنة، كما مئات الآلاف من سكّان جنوب السودان، الذين لجأوا إلى أوغندا، هربًا من أعمال العنف في بلدهم، وها هي مشكلة السودان تتفاقم ثانية ويتكرّر المصير نفسه، عدا عن الحرب المدمّرة في سورية واليمن، والأزمات التي تعصف ببلدانٍ عربيةٍ أخرى، والحرب الروسية على أوكرانيا. ويبدو أن العدّ لا ينتهي، فهل تعالج المشكلة، كما قال مدير قسم الطوارئ في منظمة الهجرة، فيديريكو سودا “من الواضح أن الأسلوب الحالي المعمول به في البحر المتوسّط غير عملي. وعامًا بعد عام، يظلّ البحر المتوسط طريق الهجرة الأخطر في العالم بسبب ارتفاع معدّلات الموت. على الدول أن تتعاون وتتعامل مع الثغرات في عمليات البحث والإنقاذ النشطة والإنزال السريع وتوفير الممرّات الآمنة. يجب أن تضع تلك الجهود الجماعية حقوق المهاجرين وإنقاذ الأرواح في جوهر أي استجابة”.

ما الذي يدفع الملايين إلى الموت في سبيل حلم، ليس أوسع من حياةٍ تؤمّن له الأكل والمأوى والعناية الصحية وتعليم أولاده واحترام إنسانيته بصوْن كرامته وحرّيته وصوته ورأيه ومعتقده، وهي حقوقه البديهية؟ بؤساء شعوبنا يبتلعهم الموت، تعلن اليونان الحداد على أرواحهم، بغضّ النظر عن مسؤوليتها تجاه ما وقع، بانتظار التحقيق، بينما يمرّ لدى حكوماتهم خبر موتهم عابرًا في نشرات الأخبار، ولا تسعى إلى أن تطالب بحقها في أن تكون عضوًا أساسيًا في تحقيقات من هذا النوع.

القضية أكبر من التعاون بين الدول من أجل سدّ الثغرات في عملية الإنقاذ، مع ملاحظة الجملة الأخيرة في قول مدير قسم الطوارئ: “يجب أن تضع تلك الجهود الجماعية حقوق المهاجرين وإنقاذ الأرواح في جوهر أي استجابة؟”، وكأن فيها غمزًا لجهة اليونان في طريقة التعاطي مع الحدث. تستدعي القضية معالجة المشكلة من جذورها، من مسبّباتها، لماذا لا تهتدي الدول الكبرى إلى حلول نافعة؟ لماذا مثلًا لا نجد مواطنين ينتمون إلى تلك الدول القوية يغامرون ويقامرون بحياتهم من أجل حلم الوصول إلى أماكن أخرى؟ بل إنهم يسافرون ويهاجرون بإرادتهم، وسعيًا وراء أمنية أو رغبة أو طموح، وليس من أجل حلم يائس، ويصلون بكرامتهم إلى أي بقعةٍ يريدونها، من دون أن يساموا الذلّ ويعرضوا في أسواق النخاسة العصرية، وحكوماتهم مسؤولة عنهم حتى بشكلٍ فردي، كل مواطن لديها كرامته من كرامتها، فتدافع عنه وتحميه، ولو جاب البحار بإرادته وتعرّض لأي خطر يداهمه، إلّا نحن كالأيتام على موائد اللئام، حكوماتنا وأنظمتنا تنهب ثروات بلداننا وتتصرّف بها كما تشاء من دون سؤالنا، تحرمنا من حقوقنا وتحاصر تفكيرنا ووعينا وآراءنا وكرامتنا، فلا كرامة خارج أهدافها وشعاراتها المتورّمة، ولا حقوق إلّا ما تجود به علينا كي تسير الحياة بشكلٍ يبرّر وجودها، هي تعي أن لا وجود لسلطةٍ من دون قاعدة تمارس تسلّطها عليها.

ما هي الإجراءات التي تدعو إليها المنظمة الدولية للهجرة والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وتطالب بأن تكون حاسمة، لمنع مزيد من حوادث الموت في عرض البحر، وذلك بعد حادث الغرق المأساوي هذا؟ وبمَ تفيد طالما أن القضية ممتدّة ومستدامة، طالما هناك حروبٌ وشعوبٌ تُقتل وتُجوّع وتُنهب، ودول تفشل وتستباح بتدخّلات خارجية وتسلب حكوماتها القرار والسيادة، وتبقى أنظمتها الفاشلة تمارس سلطتها المطلقة على شعوبها، فتدفعهم إلى الموت، فيما لو لم يموتوا في حروب النزاع على السلطة؟

العالم بمجمله متأزّم، تواجه البشرية اليوم تحدّيات كثيرة وكبيرة، كالتغير المناخي والحروب وتضاؤل الموارد الطبيعية والجوائح، لكن بدل التكاتف والتعاون من أجل حماية مستقبل البشرية، تزداد الانقسامات والتجاذبات والصراعات والحروب، ونحن نذهب “فرق عملة”، فلماذا لا يستخفّ العالم بنا طالما أن أنظمتنا تستخفّ وترخّص بنا؟ بل تقتلنا إذا ما انتبهنا إلى إنسانيتنا؟ كلما طال أمد تأزّم البشرية هذا تزداد العنصرية وكراهية المهاجرين، وقد بدأت نتائج هذه النزعة العنصرية تجاه اللاجئين تظهر بقوّة في أوروبا، ويصعد اليمين المتطرّف معها وتزداد قاعدته الشعبية، كما أظهرت استطلاعات الرأي أيضًا في ألمانيا أن حزب “البديل من أجل ألمانيا” ازدادت قاعدتُه الشعبية كثيرًا، صار في المرتبة نفسها (المركز الثاني) مع المستشار أولاف شولتز عن حزب الديمقراطيين الاجتماعيين SPD. وقال حوالي 65% ممن شملهم الاستطلاع إن موقف حزب البديل من أجل ألمانيا الحاسم بشأن الهجرة كان سبب تصويتهم للحزب. هذا مؤشّر مقلقٌ لمستقبل المهاجرين واللاجئين، فيما لو تمكّنت هذه الأحزاب من الوصول إلى موقع القرار المؤثّر.

لن نحظى، نحن مواطني هذه البلدان المنكوبة بأزماتها المستعصية وأنظمتها المستبدّة، بفرصة أمل في عودة الحياة، وحماية من بقي منها على قيد الحياة، من قوارب الموت، إذا لم تتفق القوى العظمى والدول الإقليمية على حلولٍ سياسيةٍ لأزماتنا الممتدة، وسيبقى البحر الأبيض المتوسط فاغرًا فمه لابتلاع بؤساء هذه الشعوب المنكوبة.

مقالات ذات صلة