لترتقِ القوى الفلسطينية إلى مستوى التحدّيات

مصطفى البرغوثي

حرير- كما توقّعنا، في مقال نُشر في “العربي الجديد” في 11/6/2023 “إرهاب المستوطنين.. الخطر المباشر على شعب فلسطين”، تصاعدت الهجمات الوحشية للمستعمرين المستوطنين على المدن والقرى الفلسطينية. وخلال الأسبوع الماضي، أعلنت إسرائيل والحركة الصهيونية، بكل مؤسساتها وأحزابها الحاكمة والمعارضة، حرباً جديدة على الشعب الفلسطيني. وبدأ الأمر بإعلان حكومة نتنياهو الفاشية تقليص خطوات إقرار الوحدات الاستيطانية من ستة إلى اثنتين فقط، وتفويض المستعمر الفاشي سموتريتش صلاحية إقرار التوسّع الاستيطاني في الضفة الغربية من دون الحاجة إلى العودة إلى أي مرجعية، وتبع ذلك البدء بإنشاء 15 مستعمرة جديدة، وسماح الحكومة الإسرائيلية للمستوطنين بإنشاء سبع بؤر استيطانية جديدة. وفي المحصلة، أقرّت حكومة إسرائيل 13 ألف وحدة استيطانية جديدة منذ وصولها إلى الحكم، وهو رقم غير مسبوق في التوسّع الاستيطاني، ويبدو واضحاً أن هدفها إنشاء 170 مستعمرة جديدة تضاف إلى 151 مستعمرة قائمة حالياً.

ولفهم مغزى ذلك القرار (إعلان الحرب)، لا بد من التذكير بما قاله سموتريتش حرفياً، بعد أن وصف نفسه بالفاشي، حيث قال: “سنملأ الضفة الغربية بالمستوطنات والمستوطنين حتى يفقد الفلسطينيون كل أملٍ في قيام دولة لهم، وعندها لن يبقى أمامهم سوى واحد من ثلاثة خيارات، الرحيل، أو الخضوع، أو الموت”. وفهم الجميع بيان حكومة نتنياهو على حقيقته إعلان ضمّ الضفة الغربية وتهويدها بكاملها بما في ذلك القدس. وتبع ذلك الإعلان الأرعن والخطير، هجوم على مخيم جنين أودى بحياة سبعة شهداء، منهم الطفلة سديل نغنغية (15 عاماً)، وتخلّله، ردّاً على بسالة المقاومة، استخدام طائرات أف – 16 والأباتشي والمسيّرات العسكرية ضد المدنيين العزّل في جنين. ثم أُتبع ذلك بهجمات للمستعمرين المستوطنين، بعد قتل أربعة منهم في هجوم فدائي، على أكثر من خمسين بلدة وقرية فلسطينية، كان أبرزها ترمسعيا وعوريف واللبّن الشرقية، حيث أحرق المستعمرون الإرهابيون عشرات البيوت ومئات المركبات، واقتلعوا وأحرقوا مئات الأشجار والمحاصيل الزراعية، وترافق ذلك مع إطلاق جيش الاحتلال الرصاص على سكّان تلك المناطق الذين حاولوا التصدّي للمستوطنين فجرح العشرات، وقتل الشهيد الشاب عمر قطين في ترمسعيا.

ويمكن تلخيص جوهر ما جرى ويجري في ثلاث نقاط: أولاً، ليس لدى إسرائيل سوى مشروع واحد للضفة الغربية وفلسطين، الضمّ والتهويد ومحاولة فرض تطهير عرقي جديد، كما جرى في عام 1948.

ثانياً، أن إسرائيل تستخدم جيشها بكل مكوّناته وأسلحته وطائراته ضد المدنيين الفلسطينيين الواقعين تحت احتلالها منذ 1967، وكأنها في حالة حرب بين جيشين، وهي تخلط هنا عمداً، كما فعلت أيام الانتفاضة الثانية، بين مفاهيم الحرب بين الجيوش والحرب على الإرهاب كما تسمّيها، كما يناسبها، فهي تعتبر المقاومين الفلسطينيين إرهابيين، وليس أسرى حرب أو مقاتلين، ولكنها تشنّ عليهم وعلى شعبهم حرباً بكل مكوّنات جيشها، وهذه جريمة لم ترتكبها من قبل إلا الأنظمة الفاشية والنازية التي شنّت حروباً على الشعوب الواقعة تحت احتلالها.

ثالثاً، يواجه الشعب الفلسطيني حرباً منسّقة تماماً بين جيش الاحتلال وعصابات الإرهاب الاستيطانية، التي تحاول تقليد ما فعلته عصابات الأرغون وإيتسيل والهاغاناه الصهيونية عام 1948.

يهاجم المستوطنون المدجّجون بالسلاح، ومعظمهم جنود في جيش الاحتلال بلباس مدني، القرى الفلسطينية بحماية جيش الاحتلال، وعندما يتصدّى لهم الشباب الفلسطيني الذين لا يملكون سوى الحجارة وأجسادهم للدفاع عن النفس، يتقدّم جيش الاحتلال ويطلق الرصاص على الفلسطينيين، فيقتل بعضهم ويجرح آخرين ويعتقل من تبقى. وعلى مدار الأسبوع الماضي من اعتداءات المستوطنين الهمجية، لم يعتقل جيش الاحتلال مستوطناً واحداً، ولم يمنع أياً منهم من حمل السلاح ضد المدنيين الفلسطينيين العزّل.

هذا هو الواقع الذي نعيشه في فلسطين على مرأى ومسمع من الغرب المصمّم على سد أذنيه وإغلاق عينيه، والاستمرار في سياسة المعايير المزدوجة، والاكتفاء ببيانات إدانة ضعيفة لا تعني شيئاً لنتنياهو، ومواصلة الحديث الممجوج عمّا يسمّى “حلّ الدولتين”، من دون الاستعداد لتهديد نتنياهو بعقوباتٍ تُجبره على وقف الاستيطان الذي دمّر ويدمّر “حلّ الدولتين” نفسه.

ليس أمام الفلسطينيين إلا المقاومة والكفاح بكل ما يملكون، وما من كلماتٍ كافية لوصف بطولة الشعب الفلسطيني، وخصوصاً أجياله الشابة، في تصدّيها للمحتلين والمستوطنين، وصدّها هجماتهم المتتالية التي فشلت المرّة تلو الأخرى في كسر إرادة الصمود والمقاومة لدى الشعب الفلسطيني. وما من شك أن أكثر ما يثير هؤلاء المحتلين والمستعمرين المستوطنين نجاح المقاومة، بكل أشكالها، في التصدّي لهم، وإيقاع الخسائر بهم، والأهم تثبيت صمود الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، رغم التفاوت الهائل في الإمكانات العسكرية، والاقتصادية، والتقنية. غير أن خطورة التحدّي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، واختيار الحركة الصهيونية الفاشيين لقيادة حكومتها، وترويجها نظرية حسم الصراع عبر مضاعفة عدد المستعمرات، وتنفيذ الضمّ الفعلي، ونشر الإرهاب في محاولة لتكرار نكبة التطهير العرقي، يستدعي تحوّلاً فلسطينياً سريعاً، يتناسب مع خطورة المرحلة، وجسامة المهام المطلوبة، وذلك يشمل إنهاء السلطة للتنسيق الأمني، والتخلي عن عقيدة أوسلو الأمنية فوراً، ودمج عناصرها الأمنية بلجان المقاومة والحماية الشعبية، والإسراع في توحيد كل القوى الفلسطينية في قيادة وطنية موحّدة، على استراتيجية كفاحية مقاومة. قيادة تتحمّل مسؤولية القرارات الكفاحية والسياسية الموحّدة، وتستفيد من فرص غير مسبوقة لتعرية الإرهاب الاستيطاني والفاشية الصهيونية وفضحهما وعزلهما، ووحدة طاقات الشعب الفلسطيني في مواجهة الخطر الجاثم.

وإذا نحّت القيادات السياسية خلافاتها، وارتقت إلى مستوى العطاء النضالي الموحّد للمقاومين الفلسطينيين، والشبّان المتصدّين لقطعان المستوطنين، فستجد معها شعباً يمنح النضال الوطني كل طاقاته، ويفتح أمامها طريق النصر الذي يحلم به الشعب الفلسطيني منذ عقود.

مقالات ذات صلة