عن أي انتصارٍ يتحدّثون واللبناني ينتحر؟

جيرار ديب

حرير- “وين الدني ووين ناسها”، مثل ينطبق على مسرحية جلسة انتخاب الرئيس اللبناني أخيراً وما قبلها، حيث تتعمّق الهوّة بين الطبقة الحاكمة التي تعيش مسرحيات التمثيل وشعب يعاني الأمرّين بين أزمة اقتصادية خانقة وظاهرة الانتحار التي ارتفعت نسبتها لتصل، حسب مراكز الإحصاءات، إلى أن هناك كل ستّ ساعات محاولة انتحار في لبنان.

وتعليقًا على جلسة الانتخاب، اعتبر رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي أن “لا مجال للإسراع في انتخاب رئيس جديد إلا عن طريق الحوار”. ولكن عن أي حوارٍ يتحدّث، وقد مرّ على الشغور الرئاسي أكثر من ثمانية أشهر، ولم تستطع الأطراف المعنيّة التوصّل إلى رئيس.

كما كان متوقعًا، التحقت جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، التي حملت الرقم 12، بسابقاتها الـ11، بعدما سرى عليها السيناريو نفسه تقريبًا، من خلال التئامها في دورة “يتيمة”، وانفراطها قبل الدورة الثانية، مع اختلافٍ بسيط، أن مرشّح القوى التي تطلق على نفسها الممانعة هو الوزير السابق سليمان فرنجية. أما القوى المسيحية فقد تقاطعت مصالحها على ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور، مع غياب لحضور الورقة البيضاء التي كانت مرشّحًا أساسيًا في الدورات السابقة.

على وقع الاحتفالات المرتكزة على “الشعبوية” حينًا، وعلى تجاهل معاناة الناس أحيانًا، احتفل كلا الفريقين في المجلس النيابي من خلال إعلان كل واحد انتصارَه في هذه الجلسة، وأن مرشّحه هو الذي انتصر على طريقة “بيّي أقوى من بيّك”، في ظلّ الاستهتار الكبير من نواب من المفترض أن يمثلوا الشعب في المجلس النيابي، لا أن يمثلوا على الشعب في مسرحياتٍ هزيلةٍ لن تنتج رئيسًا للبلاد إلا بعد وضوح الرؤية الدولية والتسويات القائمة في المنطقة.

لطالما ربط اللبناني مصيره بمصير ما يحدُث في المنطقة والعالم، خصوصًا في الاستحقاقات الكبرى، كعملية انتخاب رئيس للبلاد. ولكن ما يميّز المرحلة اليوم عن سابقاتها أن الوضع لا يحتمل التأخير ولا التمثيل، بل الإسراع في تقديم الحلول الإنقاذية لبلدٍ وصفه المبعوث الفرنسي الجديد إلى لبنان، جان إيف لودريان، بأنه بمثابة “سفينة التايتنيك التي تغرق من دون موسيقى”.

غرقت السفينة، ولم يزل طاقمها يغرّد خارج السرب، من دون أن يشعر بمسؤولية أعماله التي أدّت إلى تردّي أوضاع البلاد، وانهيار اقتصادها، فهذه الطبقة التي حكمت واستحكمت بالعباد والبلاد منذ اتفاق الطائف (1989) لم تزل موجودة، لا بل هي من ستنتخب الرئيس، فعن أي رئيس إنقاذي نتحدّث طالما أن خصم الشعب هو الحاكم نفسه؟

تستنفر هذه الطبقة كل الجهود لإيصال رئيسٍ يحاكي مخاوفها من المحاسبة، أو تطبيق قانون “التدقيق الجنائي” الذي لم يزل مختبئًا في أدراج المجلس النيابي، ومغيبًا عن التنفيذ، فالرئيس المطلوب يجب أن يحمي الطبقة الفاسدة، وليس المطلوب منه تقديم المشاريع ولا وضع الخطط الإنقاذية.

قد تكون الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها البلاد السبب والدافع الأساسي للانتحار في لبنان. فبحسب الأرقام الدولية للمعلومات، ارتفعت حالات الانتحار بين اللبنانيين، خلال الأشهر والأيام المنصرمة من العام الحالي، إلى 66 ضحية، مقارنة بـ40 في الفترة نفسها من العام الماضي، مسجّلة ارتفاعًا بنسبة 65%. ومن شأن استمرار الأمر على هذه الوتيرة أن يرفع العدد في نهاية العام إلى 170 ضحية، وهو الرقم الأعلى بين الأعوام الماضية.

لا يتوقّف الانتحار في لبنان عند كل من يقرّر إنهاء حياته بطريقةٍ أو بأخرى، بل أيضًا يترجم في ارتفاع نسبة الهجرة الشرعية وغير الشرعية إلى دول الاغتراب. كيف لا وقد بات اللبناني يعتمد طريقة الهروب سعيًا نحو مستقبلٍ أفضل، بعدما كان قد فقد الأمل بتلك المنظومة السياسية التي تحاول اليوم إنتاج رئيسٍ يحاكي طروحاتها، وليس رئيسًا إنقاذيًا لبلد منهار.

لم يعد الوضع في لبنان يحتاج معالجات آنية، إذ حتى انتخاب رئيس للبلاد قد لا يفي بالمطلوب، ولن يثني اللبناني عن إقدامه على الانتحار، لأنّ الأزمة التي يمرّ بها هذا البلد جذرية أو بالمفهوم الاقتصادي هي “بنيوية”. لهذا يبقى الخروج منها يحتاج سياسات بنيوية تطال البنى الاقتصادية بشكل عام، إذ يجب الإقدام على تطبيق اللامركزية الإدارية التي تنظم الحياة الاقتصادية.

أخيرًا، من يستمع إلى نوّاب الأمة، الذين فرزتهم جلسة الأربعاء، 14 يونيو/ حزيران، إلى أربع مجموعات تقريبًا، يتحدّث كل فريق منهم عن الانتصارات التي حقّقها في هذه الجلسة، والتي انضمت إلى سابقاتها في التعداد والسلبيات، يعتقد للوهلة الأولى أن البلاد بألف خير، وأن لبنان الكبير هو الذي انتصر، أو أن أموال المودعين قد استعيدت بالكامل، وأن الأزمة الاقتصادية الخانقة قد بدأت بالتراجع، لتحلّ مكانها البحبوحة، وليعمّ الازدهار والإنماء، وأن القضاء كشف حقيقة انفجار مرفأ بيروت وأدخل السجن كل من نهب المال العام.

مقالات ذات صلة