هجرة العقول العربية … رؤية من زاويةٍ أخرى

نور الدين سالمي

حرير- هجرة الكفاءات أو هجرة العقول موضوعٌ قديمٌ متجدّد، لكن هذا لا يمنع من مواصلة إثارته والبحث عن حلولٍ له. لا تخصّ الدول العربية، بل تعدّ ظاهرةً كونية، تستفحل سنةً بعد أخرى، وتتفاقم جيلا بعد جيل. هي أساسا من دول الجنوب إلى دول الشمال، وبشكل أخصّ من الدول النامية إلى الدول الغربية المتقدمة. توجب الاستمرارَ في بحث هذه الظاهرة ودراستها الأرقام المرتفعة والكلفة الكبيرة التي تثبتها الإحصائيات والدراسات، لذا وجب مواصلة الاهتمام بالموضوع والعمل عليه ومتابعته. الخوض في هذه الظاهرة تفرضه اليوم الأرقام التي تضاعفت بعد جائحة كورونا، فمع تضاعف “الطلب” من الدول المتقدّمة، خصوصا في المجال الطبي والتكنولوجيا، نرى أيضا تضاعف “العرض” من الدول العربية التي شهدت انتكاسة الربيع العربي وتراجع كلّ تجارب التحول الديمقراطي فيها.

يعتقد بعضهم أن هجرة العقول تمثل فرصة للدول الأم. قد يكون في ذلك شيء من الصواب، ولكنه يبقى نسبيا للغاية، فهذه الظاهرة لا تحتمل التبرير ولا البحث عن أعذار للبيئة الطاردة للعقول في الدول العربية، فالقول إن ذلك يخفّف من البطالة مردود على قائليه، إذ إن الخبرات التي تهاجر في الحقيقة كفاءات تحتاجها البلد الأم وليست في حالة بطالة. وإذا كان يتعذّر توظيفها فإن العيب أو القصور ليس فيها، وإنما في سياسات البلد وإدارة اقتصاده الذي لم يتمكّن من الاستفادة من كفاءات مطلوبة عالميا. يرى القائلون بمنافع هجرة الكفاءات التي تعود على بلدانهم الأصل أن ذلك يضمن أيضا دخلا من العملة الصعبة. بالرغم من أن في هذا جانبا من الصواب، إلا أنه يبقى أيضا نسبيا، لأن تحويلات المهاجرين المالية إلى البلد الأم هي عموما نسب جد ضئيلة من دخلهم السنوي، وتذهب أساسا لمساعدة الأهل والأقارب. ويدافع بعضهم أيضا عن تحوّل هذه العقول إلى الخارج لضمان نقل الخبرات والعلوم المكتسبة الى الداخل، لكن هذا أيضا رهين تجاوب الداخل الذي كان، بشكل أو بآخر، سببا في هجرتها، ولم يتمكّن من الاستفادة منها وهي قريبة، فهل هو قادر على الاستفادة منها بعد أن تغادر البلد؟

تحكم هذه الظاهرة متطلبات السوق العالمي وقواعد العرض والطلب فيه، فالدول المستفيدة تضع سياسات مغرية لانتقاء الكفاءات وجلبها. الولايات المتحدة مثلا وكندا والمملكة المتحدة وأستراليا وألمانيا وفرنسا جميعها تستقطب الأطباء والمهندسين والباحثين الجامعيين وغيرهم من الكفاءات. ولكن إلى جانب هذه السياسات الجاذبة والمدروسة من الدول المستقطبة والشركات الناشطة في هذه السوق العالمية، يعود تضاعف هجرة الأدمغة والكفاءات العربية إلى أسبابٍ أخرى عديدةٍ ومتشابكة، أين توجد كثير من عوامل الطرد. وتمثّل الأسباب الاقتصادية أهمّ الأسباب، فلا يخفى على أحد أن الدخل المادّي ومحفزات الارتقاء المهني تبقي عاملا فاعلا في هجرة أي خبرة عربية. لكن العوامل السياسية أيضا وازنة، فضيق هامش الحريات الشخصية والسياسية والتضييق على الناشطين والمثقفين والمبدعين والوضع الأمني الذي يتسم بعدم الاستقرار أو الصراعات والحروب في بعض الدول كلها عوامل محددّة. وكذلك العامل الاجتماعي الذي يشجّع الكثيرين، لما هو متاح للمهاجر وعائلته من امتيازات الصحة وتعليم الأبناء والإقامة الدائمة والحصول على الجنسية في أحيانٍ كثيرة. إضافة إلى هذا كله، يجب ألا نغفل العوامل الشخصية والذاتية كحسن المعاملة وجودة الحياة والعيش الكريم وفرص تطوير الذات التي تتيحها الدول المستقطبة وبيئتها. لا يصمد أمام كل هذه المغريات إلا قلة قليلة من الخبرات العربية التي تعاني إجمالا من وضع سيئ يمتاز بثقافة المحاباة والزبائنية والحرمان من عمل في التخصّص والبيروقراطية والتعقيدات الإدارية وتهميش للبحث العلمي وسياسات الابتعاث الفاشلة وضعف القطاع الخاص وشبه غياب لروح المبادرة والإبداع.

على الرغم من وجود دول عربية نجحت في برامج التربية والتكوين (التأخيل)، مثل تونس ولبنان والعراق، إلا أن هذا الاستثمار في التعليم لم ترافقه سياسات واضحة في الاقتصاد والتنمية، الشيء الذي حدّ كثيرا من استفادة هذه البلدان من الثروة البشرية التي استثمرت فيها وكوّنتها. وقد يكون العزاء في استفادة بعض دول الخليج، مثل قطر والسعودية والإمارات وبدرجة أقل الكويت والبحرين وعُمان التي تمكنت من استقطاب خبرات عربية عديدة. هذا يجب استحسانه والتنويه به، لكن رغم أن هذه الدول توفر رفاها اقتصاديا واستقرارا سياسيا وامتيازات للعائلات، فهي ما زالت عاجزةً عن منافسة الوجهات الغربية. لكي ترقى دول الخليج إلى مستوى الاستقطاب الأعلى، من الضروري أن تعمل على تشجيع أكبر للبحث العلمي ورصد اعتمادات أهم له. كما أنه حان الوقت أن تخفّف هذه الدول شروط التأشيرة والإقامة، وأن تخوض تجربة منح الجنسية على الأقلّ للعلماء العرب الراغبين في ذلك.

لا شك إذا أن هجرة الكفاءات العربية تترك فراغا سياسيا وثقافيا يصعُب ملؤه. أضف إلى ذلك تداعياتٍ اقتصادية كبيرة، وهي خسارة صافية في اتجاه واحد لأهم عناصر الإنتاج (العنصر البشري)، فدول عربية عديدة استثمرت في هذا الرأسمال البشري، ثم قدّمته مجانا على طبق من فضّة إلى الدول الغربية. وأرقام منظمة العمل العربية والمنظمة الدولية للهجرة وتقارير الأمم المتحدة للتنمية البشرية في العالم العربي وغيرها دليلٌ قاطعٌ على أثر هذه الظاهرة على مستوى التنمية، فبعد الاستثمار المكلف جدا للعائلة وللبلد تغادر هذه الخبرات مواقع ومسؤوليات متقدّمة في منظمات ومؤسسات ووزارات، الشيء الذي غالبا ما يُحدث ارتباكا كبيرا في الإدارة والمؤسّسات في القطاعين، الخاص والعام. إذ لهذه الظاهرة انعكاس وخيم على مستوى التعليم والخدمات الصحية والبنية التحتية.

في الخلاصة، نحن أمام نزيفٍ عربيٍّ يقابله استنزافٌ غربيٌّ ممنهج. ورغم أن السياسات عموما لا تواجَه إلا بسياساتٍ محكمةٍ مدروسة، إلا أن الجرأة ضرورية هنا للإقرار بأنه لا يمكن الاعتماد على الحكومات العربية في المدى المنظور لوضع سياسات استرجاع كفاءاتها التي غادرت أو الحفاظ على الكفاءات التي قد تُغادر. كما أنه لا يمكن انتظار أن يستفيق الحكام وترقّب نهاية الصراعات وصمت المدافع والرشّاشات، وأن تكفّ هراوات البوليس في بعض الدول العربية … إذا فعلنا لضاع جيل أو جيلان قادمان. ففي هذا الظرف العالمي المتغّير، لا فائدة في الدعوة إلى مشاريع وسياسات كبرى لا تُفضي إلى شيء، أو التنادي بضرورة عودة الخبرات المهاجرة. لكن يمكن الاعتماد والاستفادة من عدّة خصائص يتميّز بها الوضع العالمي اليوم، كالتطوّر التكنولوجي ووسائل الاتصال والاستقطاب متعدّد الأطراف وبروز قوى صاعدة والاستفادة من الربيع العربي الذي زاد شعوب المنطقة تقاربا والتحاما.

حتما، لا يوجد حلّ سريع، نهائي وجذري، وليس مطروحا أصلا التفكير في إيقاف الهجرة ولا في عودة مكثّفة للمهاجرين. لكن مساحات العمل والفعل تبقى اليوم واسعة. فبادئ ذي بدء، لا مناص من العمل على قاعدة بياناتٍ دقيقة، مفصّلة ومكيّفة زمنيا لهذه الخبرات، حتى نعي ما نقول ونعرف عمّا نتحدّث. فكل المعلومات والمعطيات متوفرة عند الإدارة في كل الدول (لدى وزارات التعليم العالي والبحث العلمي ووزارات الهجرة ووزارات الشؤون الخارجية والجامعات والمستشفيات والمخابر… ). فحريّ بها، إذن، العمل على قاعدة البيانات التي قد تتطوّر إلى إحداث مراصد وطنية للكفاءات والخبرات في الخارج، وهذا ما ييسّر تمتين العلاقات وارساء شبكات، خصوصا مع المهاجرين المتحمّسين وهم كثر. وسيسهّل ذلك إنشاء جمعيات وروابط وغيرها من أشكال عمل جماعي، يؤسّس لعمل استشرافي يعزّز من فرص الاستفادة من الخبرات والعقول قبل أن تذهب هدرا. وفي الإطار نفسه، على وزارات الخارجية والبعثات القنصلية في الخارج مزيد من الحرص على التجميع ومتابعته ورصد الجسور ومدّها مع الكفاءات في الخارج وتوفير العناية والتسهيلات والمرافقة لها. ويقترح هنا، وبالتنسيق مع وزارات التعليم العالي والبحث العلمي، تكليف قسم أو شخص من الفريق الدبلوماسي للعناية بهذه الخبرات التي تعتبر أعلاما وسفراء البلد في ميادين اختصاصها، فما بال السفارات والقنصليات تعجّ بأعداد الموظفين المسؤولين على مختلف القطاعات: الاجتماعي والاقتصادي والثقافي … ونهمل هؤلاء؟

أما في الداخل، فقد وجب التشديد على وجوب مضاعفة الإنفاق على البحث العلمي، فنسبة التمويل من الناتج المحلي الإجمالي في الدول العربية هزيلة جدا، وهي من أضعف الموازنات في العالم. ولا يسمح المجال بالتفصيل هنا، لكن وجبت الإشارة إلى البوْن الشاسع بين ما تنفقه دول عربية كثيرة على الأمن والعسكر والتسلح من ناحية وعلى البحث العلمي من ناحية ثانية. ولترشيد هذا الإنفاق، كان لزاما العمل على مزيد من استقلالية الجامعات والمختبرات في الدول العربية، وإلا لاصطدمت التمويلات والجهود بالبيروقراطية المقيتة المميتة.

وحتى يثمر الجهد في الخارج والداخل، لا ريب أن ابتعاث الطلاب والمهمّات البحثية في الخارج ضرورة ملحّة، لكن وجب أيضا تشجيع الجامعات والمؤسّسات البحثية وغيرها على مزيد من التنسيق مع الكفاءات بالخارج واستقدامها الي محاضرات وأعمال مشتركة في الداخل كلما كان ممكنا. لا اختلاف في أن ذلك أجدى وأنفع.

وأخيرا، لا يمكن أن ننهي هذه المقترحات من دون النداء بصوت عال إلى العمل على شراكة حقيقية وفاعلة مع القطاع الخاص في الاستفادة من كفاءات البلد وخبراته. وذلك بالتوظيف والتمويل والانفتاح على الجامعات ومؤسّسات البحث العلمي والعمل مع الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني المحلي والوطني، فلا سبيل لنهضة بلد أو أمة وجامعيّيها وباحثيها في أبراجهم، بينما المشرفون على مؤسّساتها في القطاع العام والخاص في مكاتبهم الموصدة دون غيرهم.

مقالات ذات صلة