2023 … ثور هائج يتقدّم بقرنيه

محمود الريماوي

حرير- حين سئل الناطق باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، إن كانت هناك هدنة مؤقتة في الحرب بين روسيا وأوكرانيا بمناسبة عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية، أجاب بأن هذه الفكرة “ليست على جدول الأعمال. ولم يطرحها أي طرف”. والمقصود أن الحرب لن تتوقف في هاتين المناسبتين المفعمتين بأمنيات السلام، وأن على المدنيين أن يحتفلوا بدون كهرباء، وبغير تدفئة، نتيجة القصف على مصادر الطاقة. في بلاد أخرى في شرقنا الأوسط، لا تأخذ قوات الاحتلال الإسرائيلي علماً بأعياد المسلمين والمسيحيين، وهم أبناء البلاد وسكانها الأصليون، فتواصل نشاطها الأمني المسعور بهدم البيوت والاعتقالات الكيفية الجماعية واقتلاع الاشجار، لكن هذه السلطات تقوم بمناسبة الأعياد اليهودية بحظر شامل في الأراضي المحتلة على الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين، إذ يتعيّن على هؤلاء التوقف عن مزاولة مظاهر الحياة الطبيعية كي ينعم اليهود بأعياد هانئة. وفي الحرب الطويلة على شعبه، كانت قوات النظام السوري، أزيد من عقد، وبمناسبة الأعياد تُعيّد على شعبها، منذ ساعات الصباح الأولى، بما يتيسّر من قذائف وصواريخ وبراميل.

يستعيد المرء هذه الوقائع، فيما الأسرة البشرية تستعد، في هذا اليوم الأخير للسنة، للاحتفال بانصراف سنة وحلول سنة جديدة. على أن المرء، ومنذ أمد غير قصير، لم يعد يلحظ فاصلا بين سنة وأخرى في برامج سياسات الدول ولدى الجماعات السياسية، إذ يتم التغاضي عن هذه المناسبة والقفز عليها بغية مواصلة تحقيق الأهداف بدون توقف، وعدم الانشغال بما ينشغل به الناس العاديون من التماس مسرّات فردية وجماعية في مناسباتٍ مخصوصة، بينما الوقت كله مناسب، والظروف يجب أن تكون سانحة من أجل أن يبلغ الكبار وذوو الأهمية أهدافهم كاملة غير منقوصة. مثلهم في ذلك، ويا للعجب، الفقراء ممن يسعون إلى الحد الأدنى من متطلبات العيش، ولا تستوقفهم هناءات الاحتفال بمناسباتٍ ما.

وعليه، سوف يبدو بدء السنة الجديدة امتداداً للأيام المنصرمة وسوف تلد السنة البائسة الموشكة على الانصراف عاما آخر شبيها بها، ويدعو الحالمون والبسطاء، في الأثناء، أن لا يكون عام المشأمة، بعد أن تضخّمت النزعات العدوانية والتوسعية والأنانيات القومية التي يجري إلباسها لبوس الأمن الاستراتيجي والمصالح الحيوية والحقوق السيادية، وهذه جميعا تتعلق بالفاعلين المقدامين. أما المفعول بهم فلا أمن يستحقونه، ولا حقوق لديهم، ولا مصلحة لهم سوى في الخضوع لإرادات الفاعلين ذوي القدرات الكلية والعلم التام بدقائق الأمور.

وهكذا سوف تتواصل الحرب على أوكرانيا لنزع سلاحها (نزع سيادتها ثم نزع وجودها وكيانها)، ويجري ترويج أسلحة عالية الدقة وفرط صوتية، أسلحة الشيطان وما أشبه، فيما لا تستحق دعوة صادرة عن مرجع روحي، بمكانة البابا في الفاتيكان، إلى وقف “الحرب الهوجاء”، أي التفات، فماذا يملك البابا من دبابات، على ما تساءل جوزيف ستالين ذات مرّة.

وفي شرقنا السعيد، تبشّر حكومة بنيامين نتنياهو السادسة، إذ تضم وزراء عنصريين وإرهابيين، بأن هؤلاء “قد نضجوا”، وسوف يتحدّثون، إن تحدّثوا، بصوت ناعم فيما يحملون هراوات ذات مسامير للفتك بالسكان الأصليين وتأبيد الاحتلال الاستيطاني والعسكري، والاستيلاء على الأماكن المقدسة لغير اليهود، وعلى أملاكهم (جرى، أخيرا، الاستيلاء على أراضٍ جديدة تتبع الكنيسة الأرثوذوكسية في القدس. وفجأة تضاءل عدد الأرثوذوكس في العالم إلى درجة أنه لا يُسمع لهم صوت إزاء هذه التعدّيات الجسيمة). فيما دوائر نافذة في الغرب، وإزاء الدعوات إلى مقاطعة الاحتلال وكشف فظائعه، تنهمك في معاينة مدى تقيّد أصحاب الرأي بالابتعاد عن معاداة السامية، بعد أن جرى رفع نقد الاحتلال إلى مصاف العداء للسامية، في ازدراء مكشوف للذكاء البشري، فيما لا يجد، على سبيل المثال، الرئيس الأميركي، جو بايدن، في صومعته بالبيت الأبيض، من وسيلة لإثبات دعمه حلّ الدولتين، سوى تقديم مزيد من الدعم الكامل الأعمى لرافضي هذا الحل في الدولة العبرية، فيما يمنح الرازحين تحت الاحتلال، حين يتذكّرهم، حلاوة من طرف اللسان عن حقّهم في الكرامة. ولن يلحظ الرئيس وإدارته النشاط الهستيري للمستوطنين المسلّحين، وبرعاية الشرطة الرسمية، في طول فلسطين التاريخية وعرضها في استباحتهم كل ما هو غير يهودي في طريقهم. ويجري خلال ذلك التلويح بحرب إسرائيلية على إيران التي تسعى إلى امتلاك سلاح نووي، فيما هذا الحقّ محصورٌ بالدولة العبرية.

وفي بلاد فارس، بموازاة الحراك الدبلوماسي لتنشيط المفاوضات مع الغرب بشأن البرنامج النووي، تواصل سلطات طهران تجريد حربٍ على الايرانيين العاديين في الشوارع، لمنعهم من التدخّل في الشؤون الإيرانية التي يقوم عليها رجال مُعمّمون في مراكز السلطة العليا. وليس لأحد في الخارج أن يتدخّل في ما هو داخلي سيادي: سيادة السلطة على شعبها سيادة تامّة.

وسوف يزداد التوتر هذا العام على تخوم تايوان وفي أجوائها، من أجل صينٍ واحدة تقوم على ضمّ هذه الجزيرة، بمختلف الوسائل، بما فيها الوسيلة العسكرية، وليس العمل على إعادة توحيد شطري بلاد التنين بطريقة طوعية، يُؤخذ فيها برأي أصحاب الشأن في تقرير مصيرهم. وما دام العالم قد اعتاد على نشوب حرب طويلة على أطراف أوروبا، لم لا تكون هناك حربٌ كاسحة أخرى في “القارّة الصينية”، حرب هي من “الشؤون والتطورات الداخلية” لذلك البلد الذي يُسابق الزمن، ولا يحفل بهراء الناس العاديين.

وعوداً، إلى أوروبا وإلى غرب البلقان، فإنه يتمّ التحضير لحربٍ ما، ضد بلد صغير يدعى كوسوفو، من أجل نصرة أقلية فيه تمارس حقوقها في وضع شاحنات ثقيلة حواجز لمنع السير على الطرق، في شمال ذلك البلد الذي تتولّى فيه جارته صربيا تحريض تلك الأقلية، فيما تتولى روسيا تحريض صربيا كي تكفل حق الصرب في الامتناع عن حمل بطاقات هويةٍ وطنية، وعن استخدام لوحاتٍ وطنيةٍ لمركباتهم، ولو اضطرّها الأمر لتجييش جيشٍ على الحدود، وهذا ما حدث عشية رأس السنة الجديدة، وبذلك تتم البرهنة على أن حربا تلد حربا أخرى في غرب البلقان، وأن الرجال البواسل على موعد دائم مع النزال في ساحة المعارك، فيما يبقى السلام تعويذة الضعفاء.

2023 عام يستحقّ التوجّس منه، مثلما يستحقّ ثور هائج يُطلّ بقرنيه أخذ الحيطة والحذر منه وردّ شرّه إليه.

مقالات ذات صلة