في دلالات مواجهة جنديٍّ مصريٍّ إسرائيل

تقادم الخطيب

حرير- ببندقيّته القديمة، قتل الجندي المصري محمد صلاح (23 عاما) ثلاثة جنود إسرائيليين وجرح اثنين، في واقعةٍ لم نشهد لها مثيلا منذ سنوات على الحدود المصرية والأراضي الفلسطينية المحتلة. وعلى الرغم من المعلومات المتضاربة في الروايتين الرسميتين اللتين قدّمهما الجيشان، المصري والإسرائيلي، وأن الجانب الإسرائيلي هو الذي أعلن كل التفاصيل، إلا أن الواقعة مثلت زلزالا كبيرا لكلا الجانبين. يتخطّى أثر الواقعة ودلالاتها الواقع، ويلقيان بأسئلة عديدة بشأن العلاقات المصرية الإسرائيلية رغم اتفاقية السلام الموقعة منذ أكثر من 40 عاما، كما أنها تطرح أسئلة أخرى تتعلق بالداخلين، المصري والإسرائيلي، إلى جانب البعد الإقليمي. لقد شكّل الاحتفاء الشعبي على الصعيدين، المصري والعربي، بما فعله محمد صلاح نوعا من الرفض والمقاومة للنظام المصري الحالي بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي يسعى، بكل قوة، إلى التأكيد على التطبيع، وأنه الراعي الأول والأساسي للسلام، متجاوزا كل ما فعله الرؤساء السابقون لمصر. كما أن هذا الرد الشعبي المصري يمثل رفضا شعبيا لاتفاقية كامب ديفيد التي وقعها النظام المصري بعد حرب أكتوبر (1973) ومن خلالها أضاع الرئيس المصري حينها، أنور السادات، المكاسب السياسية لتلك الحرب. إلا أن أهم دلالة في ذلك كله أنه رغم الأموال التي أنفقت على الأجيال المختلفة من أجل تسويق فكرة التطبيع ومحاولة تغيير العقيدة القتالية، لم يفلح هذا، وأن الشعور القومي تجاه إسرائيل لا يزال مستمرّا ومتوارثا بين الأجيال المختلفة. أما النقطة الثانية فهي أنه رغم جهود الرئيس المصري في عملية عسكرة المجتمع وإيجاد جيل جديد لا علاقة له بثورة يناير، أو أي أفكار مثل التحرّر والهوية المصرية، والقومية، والعقيدة القتالية، وإجراء الرئيس نفسه مقابلاتٍ شخصيةً مع المتقدّمين لوظائف مختلفة في الدولة لكي يتأكد من ذلك، فإن واقعة محمد صلاح مثلت فشلا لجهود الرئيس تلك، التي يرمي من خلالها إلى السيطرة على المجتمع، وقتل أي أفكار تحمل بذور المقاومة على مستوياتٍ مختلفة، أو تكون مناهضة للرئيس وتوجّهاته أو تشكيل أي ثورةٍ مستقبلية ضد حكمه. وهذا يفسّر سبب دفن الشهيد محمد صلاح بسرّية، ومنع إقامة عزاء له، والقبض على أصدقائه والمقرّبين منه، وذلك كله خشية أن تكون هناك تجمّعات حاشدة في القاهرة لوداع الشهيد، تتحوّل إلى مظاهرات حاشدة لرفض النظام، فالشارع بالنسبة للنظام خطٌّ أحمر لن يسمح بالاقتراب منه مهما كلفه ذلك، فهو يعلم جيدا أن وجود ملايين من البشر في الشوارع تطالب بإسقاطه يعني تحرّك المؤسسة العسكرية لتطيح الرئيس ومن معه.

لقد وجد الرئيس نفسه في ورطة، لذا سارع بإصدار الأوامر إلى الإعلام المصري بعدم الحديث عن العملية، أو ذكرها. وبادر بالاتصال برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للحديث أن هذه الحادثة عابرة، ولا تمثل الموقف الرسمي للدولة المصرية، وأن الدولة لم يكن لديها علم مسبق بنية المجند. وأوفد رئيس جهاز المخابرات العامة عبّاس كامل إلى إسرائيل، لتوضيح الأمر، والتأكيد على التعاون والتنسيق الأمني بين الجانبين، وفتح تحقيق مشترك للوصول إلي معرفة الأسباب التي أدّت إلي مثل هذه العملية. في الوقت نفسه، سارع وزير الدفاع المصري، محمد زكي، أيضا إلى الاتصال بنظيره الإسرائيلي مقدّما التعازي في الجنود الذين سقطوا في العملية، مؤكّدا احترام مصر الاتفاقيات الدولية والالتزام بها. وعلى الرغم من كل تلك الاتصالات ومن جهود الرئيس ورجاله، فإن الحقيقة التي تظل ثابتة أن السيسي ومن معه غير قادرين علي السيطرة كليا علي المجتمع كما يظنون، كما أن كل خططهم لتغيير العقيدة القتالية أو الثقافة السائدة في مصر بالتحديد تجاه إسرائيل غير مُجدية، فلدى المجتمع المصري نظرة واحدة تجاه إسرائيل متوارثة داخل الأجيال المختلفة ومستمرّة، لم تغيّرها الاتفاقات المبرمة أو الأموال المنفقة لترويج فكرة السلام بين مصر وإسرائيل.

وعلى الجانب الإسرائيلي، أثارت العملية أسئلة عديدة، خصوصا فيما يتعلق باتفاقية السلام مع مصر، وهل فعلا أصبح المصريون يرون إسرائيل دولة جوار، ولابد من الحفاظ على السلام معها، أم أنها لا زالت في نظر المصريين تلك الدولة التي تحتلّ أرضا عربية وتهجّر شعب هذه الأرض يوميا وترتكب المجازر ضده، وأنها الدولة نفسها التي خاضت حروبا ثلاثا ضد مصر، واحتلت جزءا من أراضيها. لذا فهاجس أن تكون العملية لأهداف قومية (كما عبّر عنها المحللون والإعلام الإسرائيلي) كان المسيطر على خطابه، وهو الكابوس الذي يخشاه الداخل الإسرائيلي والمؤسّسة العسكرية على حد سواء. في المقابل، أسقطت العملية عدّة سرديات تتعلق بجهوزية الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، وكذلك نظرية الردع الإسرائيلي التي تبنّاها بن غوريون، وترى أن بقاء إسرائيل مقرون بقوة جيشها، وتفوّقه على الجيوش الموجودة في المنطقة. لقد ركّزت إسرائيل على قوة الطيران، والأسلحة الثقيلة، لكنها أهملت الفرد (هكذا عبّر الإعلام الإسرائيلي)، فقد أعادت عملية محمد صلاح طرح سؤال مهم في إسرائيل بشأن جهوزية أفراد الجيش الإسرائيلي إذا ما واجهوا أفرادا مدرّبين، كأفراد حزب الله أو الجيش الإيراني أو المقاومة الفلسطينية، فالجندي المصري ليس من قوات النخبة (كما ذكر الإعلام الإسرائيلي)، إلا أنه استطاع التسلّل إلى داخل الأراضي المحتلة، وقطع مسافة خمسة كيلومترات، وقتل جنديين، واختبأ منتظرا دورية جديدة، وقتل ضابطا فيها وجرح اثنين.

وأثارت تلك العملية سؤالا آخر داخل إسرائيل: هل سيكون لهذه العملية صداها سواء علي صعيد المقاومة الفلسطينية، أو على صعيد الجيش المصري، وهل سيقوم آخرون من الجيش المصري بمثلها، أم سوف تشجّع أفرادا من جيوشٍ أخرى محيطة بإسرائيل على القيام بعملية مشابهة لتلك العملية؟ لقد اعتادت إسرائيل أن تنقل المعارك إلى أرض العدو، وأن تقوم بحرب خاطفة، فالمجتمع والاقتصاد الإسرائيليان غير قادرين على تحمّل معارك طويلة الأمد. لذا فإن عملية مثل التي قام بها الشهيد المصري نقلت المعركة إلى داخل العمق الإسرائيلي، وفجرت أسئلة عديدة لا إجابات لها، كما أنها أيقظت الهاجس الأمني لإسرائيل، وهو نشأ مع الدولة ولا يزال مستمرّا.٠

مقالات ذات صلة