مصير فلسطين من الحلم الكبير إلى الفتات

سمير الزبن

حرير- شكّلت فلسطين لسنوات طويلة منارةً لكل من يبحث عن المستقبل في العالم العربي، رغم المأساة التي عاشتها تلك البلاد، وقد يكون بفضلها، كانت قضية القضايا. ارتبطت كل القضايا المصيرية في المنطقة، عن حقٍّ أو عن باطل، بتحقيق حلم استعادة فلسطين. كانت فلسطين على الدوام أكبر من جغرافيّتها وأكبر من شعبها، مكان تحول إلى قضية واستحال إلى رمز صنعه الخيال ورفعه إلى مراتب التقديس. فهذه القضية التي شغلت العالم العربي على المستويين، الرسمي والشعبي، وصل التعاطف والبذل الشعبي معها في حالاتٍ كثيرة إلى مستوياتٍ لا تصدّق. وفي المقابل، وصل التوظيف الرسمي السلطوي في العالم العربي أيضاً إلى درجاتٍ لا تصدّق، ولو من موقع النقيض، موقع استخدام القضية الفلسطينية ورمزيّتها من أجل تعزيز السلطات وتبرير القمع الشامل.

كانت النكبة في 1948 عنواناً لانكسار المستقبل العربي. وعلى المستوى الفلسطيني، شكلت تدميراً للوطن والمجتمع الفلسطينيين. وبات التاريخان، الوطني الفلسطيني والقومي العربي، بعدها مختلفين عما سبق، بحيث شكّلت النكبة حدثاً تأسيسياً في الواقعين الفلسطيني والعربي، وانقطاعاً تاريخياً ذا بُعد تحويلي، ليس فقط لأنه رسم خريطة جديدة للمنطقة، وأحدث واقعاً سياسياً ضاغطاً على الجميع في المنطقة، بل لأنه شكّل انقطاعاً ثقافياً وتحدّياً، لا يكفي الإجابة عنه سياسياً، بل بات بحاجةٍ إلى إجاباتٍ ثقافية تجيب عن سؤال تجاوز سؤال شكيب أرسلان: لماذا تقدّم الغرب ولماذا تأخّرنا؟ وبات السؤال: لماذا هُزمنا ولماذا انتصروا؟ وهو ليس سؤالاً عسكرياً بالطبع.

ظهر المشروع القومي، في واحدةٍ من لحظات تاريخ المنطقة، كأنه الرد على سؤال الهزيمة. وباتت استعادة الحلم الفلسطيني مسألة وقتٍ ليس إلا، فالعملاق العربي خرج من القمقم ولا أحد يستطيع إعادته، فهذا العملاق هو الذي سيعيد المنطقة إلى سياقها الطبيعي، وسيعيد للعرب كرامتهم وحرّيتهم وأرضهم السليبة. ولكن الحكاية أخذت مساراً آخر في 1967، فإذا كان المشروع الصهيوني قد هَزَمَ عند تأسيسه جيوش الدول العربية المستعمرة أو الخارجة حديثاً من الاستعمار، فإنه في 1967 قد هزم المشروع المستقبلي العربي، على افتراض أن المشروع القومي كان يجيب عن أسئلة المستقبل. إن تسمية هزيمة 1948 النكبة، وهزيمة 1967 النكسة، كان تعبيراً عن العجز في مواجهة المشكلة، حتى من خلال الاعتراف بحقيقة ما حصل، فالتسميتان اللتان أطلقتا على الحدثين المفصليين احتياليتان، حاول مخترعوهما حجب الواقع، وبالتالي استخدمتا للتغطية على ما جرى، وليس من أجل مواجهته. وتعبير النكسة الذي نحته محمد حسنين هيكل مصطلح تبريري، يبرّر بقاء السلطة بعد هزيمتها، وأن ما جرى ليس سوى نكسة صغيرة إلى الوراء، وأن هذه النكسة لن توقف المشروع القومي. وبذلك ما زال المشروع القومي مستمرّاً، وسيتجاوز نكسته وسيرد على العدوان، وسيستعيد الأرض التي سلبت لاحقاً وسابقاً. ولكن المشروع القومي بدأ يدخل المستنقع بعد هزيمة 1967، وبعد الحرب في 1973 التي اعتبرها أصحاب المشروع القومي رد اعتبار، رغم أنها لم تستطع أن تستعيد أي أرضٍ تُذكر. أخذ المشروع القومي بعد الاستنقاع بالتعفن. واستحال إلى معاهدة صلح، لم تحُل المشكلات العالقة، ولم تستعد الحقوق التي سُلبت. وبات التكيّف مع سلب الحقوق هو المقولة القومية التي راجت منذ السبعينيات باعتبارها نصراً.

مع تصدّع المشروع القومي، وفشله في التصدّي للمهمّات التي ألقاها على نفسه بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، كان الردّ الوطني الفلسطيني، بأولوية الوطني على القومي، في التعامل مع القضية الفلسطينية، مع إنجازاتٍ رمزيةٍ مثل معركة الكرامة 1968 التي تصدّت فيها مجموعة من الفدائيين، مع الجيش الأردني، للقوات الإسرائيلية. كانت أسطورة الوطني وقدرته على إنجاز تحرير كامل التراب الفلسطيني تحلق في السماء، وأن تحرير فلسطين هو الذي يحقّق الوحدة العربية، وكل ما فشل فيه المشروع القومي أُسند إلى المشروع الوطني الفلسطيني، الذي أعاد الوجود الفلسطيني إلى الخريطة السياسية في المنطقة، وحمل الهم الفلسطيني وجعل الشعب الذي حاول المشروع الصهيوني تكنيسه تحت سجّادة المنطقة جزءاً أساسياً من معادلة المنطقة. ولكن مهمة التحرير الكامل للوطن السليب كانت أكبر من قدرة الوطنية الفلسطينية. لذلك بدأت، خلال سنوات قليلة وبفعل الوقائع التي أخذت تتكرّس على الأرض، حركة التحرّر المحلقة في سماء الحلم تنزل إلى أرض الواقع، لتتحوّل الى عضو في النظام العربي الرسمي، ومن ثم تبحث عن آليةٍ للتكيّف مع ممكنات المعطيات السياسية في المنطقة، وبدأ البحث مبكراً بعد حرب أكتوبر 1973 عن كيفية دخول حركة التحرّر في إطار التسوية المحتملة بعد تلك الحرب، فكان الشعار الشهير ببناء “السلطة الوطنية” على أي جزء يتحرّر من فلسطين، وكان مدخلاً لتحويل حركة التحرّر إلى جزءٍ من آليات عمل المنطقة وقواها الاقليمية. كان يجب تأديب حركة التحرّر عدّة مرّات حتى تتكيّف، وكان التكيّف النهائي بتوقيع اتفاق أوسلو الذي أدخل حركة التحرير إلى وطنها كسلطةٍ من دون أن تتحرّر هذه الأرض، ومن دون الاعتراف بأن الأرض التي تقيم سلطتها عليها، هي أرضها، بل جرى التعامل معها بوصفها “أراضي متنازعاً عليها”.

لم يكفِ التسوية التي تم تصميمها في المنطقة، والعاجزة عن استكمال تحققها على أرض الواقع، أن يتنازل الفلسطينيون عن 78% من وطنهم التاريخي، فلم يُسمح لهم ببناء دولتهم على الجزء البائس الباقي من الوطن، فاستطالت المفاوضات سنوات، واستطالت السلطة وتحوّلت إلى سلطتين متقاتلتين، كلٌّ منهما ترهن بشرٍّ لا ذنب لهم من أجل الضغط على الطرف الآخر. وتحوّلت المفاوضات من أجل ذاتها، وتحوّلت المقاومة التي قال بها من سيطر على قطاع غزّة وتحوّل إلى سلطة تمارس أسوأ من ممارسات السلطات في العالم العربي، وأصبحت “المقاومة” شعاراً ترفعه سلطة تعتقل في الواقع من يريدون المقاومة، وتمارس ما اشتكت منه سنواتٍ بوصفه ممارسات ظالمة.

كان مسار فلسطين الحلم محزناً، من المشروع القومي إلى المشروع الوطني إلى المشروع الإسلامي، أخذت فلسطين القضية والرمز تتآكل، وتفقد بريقها، وتتحوّل إلى قطعة سلطةٍ غير مكتملةٍ يتناهشها أبناؤها، واضعين فلسطين/ الحلم في مسار انكساري بوصفها حلماً يصنع مستقبلاً مستحقّاً للمنطقة.

مقالات ذات صلة