فرط المناعة هل يدمّر إسرائيل؟

سامية عيسى

حرير- تتعدّد الأسباب التي ستدمر إسرائيل وتتنوع. منها ما هو موضوعي، ويتعلق بتطور الصراع مع الشعب الفلسطيني والحتمية التاريخية لزوالها. لكن منها ما يتعلق بالعوامل الذاتية البنيوية وتركيبتها العنصرية التي سترتد عليها، وهي ترتدّ، وبالاً قد يفوق ما سبّبته للشعب الفلسطيني من معاناة منذ النكبة، في عام 1948، المستمرّة. نعم سوف نشهد قريباً كيف سيؤدّي سلوكها العنصري المتغطرس في بناء “مناعة” تتراكم منذ تلك النكبة، ولكنها مناعة لم تحمِها من نضالات الفلسطينيين والفلسطينيات. ذلك أن أدوات النضال الوطني يجري استعمالها في الشوارع على شكل انتفاضاتٍ وهبّاتٍ شعبية وعملياتٍ فردية ضمن معادلة “اضرب واهرب”، بحيث لا تعوزها تلك الأسلحة الفتّاكة والأكثر قتلاً وتدميراً، إلا ما تستخدمه في غزّة من نزر يسير لفائض القوة، من خلال اعتداءاتها العسكرية المتكرّرة بحراً وجواً.

أقصى ما يمكن أن تفعله هو ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب الفلسطيني واقتراف إبادات جماعية، فضلاً عن اعتقال مزيد من الأسرى، وقتل مزيد من الفدائيين الأفراد ممن يجرؤون على مواجهتها بأسلحة فردية متواضعة. حتى في ذلك العدوان عام 2014، حين تقدّمت قوات جيش الاحتلال برّياً لتدمير الأنفاق في غزّة، فإن مناعتها تلك لم تحمِها من تكبّد خساراتٍ فادحة بمواجهة كتائب المقاومة الفلسطينية الباسلة في غزّة. وهي إذ تسعى إلى مراكمة القوة من خلال التفوّق العسكري المفرط، فإن الجيوش العربية الأكثر تقدّماً جرى تعطيلها باتفاقيات تطبيع وسلام، ولا خوف متوقع منها على إسرائيل. ومع ما يترافق حالياً من انشغال الأنظمة العربية المستبدّة في ترويض شعوبها بالحديد والنار والاعتقالات، فيما تنشغل دول أخرى في حروبٍ داخلية جرى تدبيرها لتحويل ثورات الربيع العربي إلى خريفٍ دام، وبالتوازي مع أزمات اقتصادية طاحنة، وانشغال إيران وأذرعها في المنطقة العربية ببسط نفوذها الإقليمي الذي لن تتخلّى عنه حتى بعد الاتفاق مع السعودية برعاية الصين، وقد كانت القضية الفلسطينية أحد جسور العبور لهذا النفوذ. عوامل تعزّز المناعة المفرطة الذاتية، وتبعث في إسرائيل طمأنينة استثنائية من أي خطر خارجي جدّي. يشجّعها ذلك على تصعيد في الداخل ضد الفلسطينيين، يعزّز سيطرة القوى الأكثر تطرّفاً دينياً وقومياً على حساب التيار العلماني المؤسّس للدولة. ما يمنح هذه القوى الجرأة على مصادرة صلاحيات المحكمة العليا الإسرائيلية، وتغيير وجه النظام العلماني الزائف، والكشف عن الوجه الحقيقي لدولة إسرائيل. وهو ما يعجّل من تفاقم التناقضات الداخلية على خلفية الاطمئنان لفرط المناعة.

لهذا لن تحمي هذه المناعة المفرطة إسرائيل مما ينتظرها من تفكّك وزوال يستند إلى فائض قوة لا يجري توظيفها كلها في مواجهة الانتفاضات الشعبية والسلمية والفردية المسلحة، والتي حافظت على شعلة النضال الوطني الفلسطيني مستعرة، رغم كل المعطيات المزرية التي تواجهها القضية الفلسطينية في الداخل وكل أماكن الشتات، خصوصاً بعد إبرام اتفاق أوسلو، وتعمّق حالة الانقسام، وغياب الرؤية الوطنية المشتركة والإرادة النضالية الحقّة عند القيادات في السلطة الفلسطينية في رام الله، ناهيكم عن تحويل غزّة إلى ساحة صراع. وكأن حال الانقسام لا تكفي لتبديد الجهد المقاوم. وهو ما تجد فيه إسرائيل متنفساً لها يحميها من توحيد ساحات النضال الوطني، ويمنع قيام الوحدة الوطنية الفلسطينية، ويشتّت القضية الفلسطينية، وينتج مبرّرات تجاهُلها عند العرب والعالم، حكوماتٍ وشعوباً. وهذا الجانب هو إضافة في ميزان مناعة إسرائيل، لكن هذه المناعة المُفرطة التي تسمح للإسرائيليين بالشعور بالأمان لن تكفيها لحماية نفسها من الزوال.

أولاً لأن المشروع الصهيوني يحمل في ذاته بذور فنائه، كأية قوة استعمارية في التاريخ، بحسب التحليل العلمي للحتمية التاريخية المثبتة بالحقائق. إذ هي كأي قوة غاشمة فاشية ستُصاب بما يشبه بالمصطلح الطبي بأمراض “فرط المناعة”، حين تبلغ المناعة ذروات لا تحتاجها في العدوان بسبب ضعف الخصوم، وعدم امتلاكهم أدوات عسكرية وسياسية تقابل تعاظم قوتها ومناعتها. لذلك أصيبت، أخيراً بما يشبه “مرض فرط المناعة” الذي يجعل من جهاز المناعة عدوّاً للجسم، حين يبدأ مهاجمة أعضائه بوصفهم أعداء له. وغالباً ما لا يكون لهذا المرض علاج مبرم أو شاف. بل يتفاقم ليصل بالجسد (إسرائيل) إلى الموت المحتم. حتى لو استخدمت علاجات مسكنة أو مثبطة “كالستيرويدات والكورتيزون” في حالة الجسد والحوارات في حالة النزاع الداخلي. إن تشخيص الحالة التي تمرّ بها دولة إسرائيل اليوم هي أعراض “فرط المناعة” المدمّر، كما في حالة مرض التصلّب اللويحي مثلاً، بما هو تدرّج في تدمير جهاز المناعة أعضاء المصاب، وصولاً إلى الشلل التام ثم الموت المحتّم. وإن ما بتنا نعرفه عن التناقضات العميقة التي تكتنف المجتمع الإسرائيلي، وتدفع به إلى حالة من النزاع الأهلي المتعاظم، وصل تأثيرُه إلى قلب المؤسّسات العسكرية والأمنية، لا سيما القوات الجوية وجيش الاحتياط. رغم وحدتهم في قتل الفلسطينيين والفلسطينيات، إن في غزّة أو في الضفة الغربية، والتوافق على مواجهة المقاومة الفلسطينية أياً كان نوعها، لا سيّما التي تتخذ شكل النضال الوطني الشعبي الشامل بأدواتٍ بسيطة تؤجّج غضب دولة الاحتلال والخوف الوجودي الذي يقف وراء كثير من الجرائم العنصرية المتواصلة والتطهير العرقي، ويتخذ أشكالاً متنوّعة تترافق مع مراكمة فائض قوة يتسبّب بفرط المناعة. إذ بسبب لجوء الفلسطينيين إلى أشكال نضالية تعطّل ترسانته العسكرية المتعاظمة، كما في مواجهته انتفاضة أطفال الحجارة والانتفاضات والهبّات الشعبية المتكرّرة، حتى حين يستخدم القليل من هذه الترسانة لتدمير غزّة على رأس ساكنيها بعذر أم من غير عذر.

إسرائيل اليوم مصابة بفرط المناعة. ويتجلى هذا المرض في النزاع الأهلي داخل المجتمع الإسرائيلي الذي يواصل، منذ أكثر من ثلاثة أشهر، احتجاجات على مشروع قانون يمسّ بصلاحيات المحكمة الإسرائيلية العليا كأعلى سلطة في البلاد، وهو ما يضع سلطة القانون تحت سلطة الساسة، ويقضي على ديمقراطية النظام الإسرائيلي، رغم أنها تنحصر بديمقراطية اليهود بوصفهم مواطنين درجة أولى على غيرهم من سكّان الدولة ومواطنيها، لا سيما الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين. وإن كانت تلك الأعراض بدأت مع قانون القومية اليهودي الذي صدر عام 2018 تجلّياً لاشتداد درجة العنصرية لمصلحة المكوّن اليهودي، فإنها كانت لا بد أن تصيب بالضرر أولئك العلمانيين ممن أسّسوا دولة الاحتلال، وإن تقنّعوا بقناع العلمانية على خلفية خرافة “أرض الميعاد وشعب الله المختار” الدينية. وهم بذلك فتحوا الباب موارباً من الأساس لنمو التطرّف الديني اليهودي الذي سيتعاظم وفقاً للمبدأ الديني لقيام دولة إسرائيل، متفوّقاً على المبدأ العلماني المزعوم، فغطرسة القوة ومراكمة المناعة السياسية والعسكرية والاقتصادية كلها أدّت إلى ما نشهده اليوم، وسنشهده غداً وبعد غد، ويتّخذ شكل تحوّل هذه المناعة إلى خطر يدفع الإسرائيليين إلى مهاجمة بعضهم بعضاً، وفق منطق الغطرسة التي يمنحها فرط المناعة، بوصفها دولة أبارتهايد، وما هذا إلا بداية التجلّي.

إن دولة لا تتورّع عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وتفلت من العقاب بوجود محكمة عليا يُفترض أنها أعلى من كل السلطات.. محكمة يجري تقويضها مع أنها وُجدت لتحمي القادة السياسيين والعسكريين من التعرّض لمحاكمات دولية على الجرائم التي ارتكبت وسترتكب بحق الشعب الفلسطيني. إنها الغطرسة التي يمنحها فرط المناعة، ويحوّلها إلى دولة هشّة في مواجهة حقيقتها العنصرية. بلغ فرط المناعة درجة من الغطرسة والشعور بالتفوّق العنصري أن بات لا يحتاج إلى هذه المؤسّسة لتحميه من المحاسبة الدولية، بل وصل فرط المناعة إلى أن تسود الأحزاب الدينية والقومية المتطرّفة وتهيمن على مفاصل الدولة، ما يمنحها مزيداً من شعور الغطرسة، يدفعها حتى إلى الاستغناء عن المؤسّسات الأمنية الرسمية، أو أقله، إبعادها عن شبح المساءلة عبر تشكيل أطر شعبية مليشياوية من المستوطنين “كجيش الشعب” الذي يقوده إيتمار بن غفير، فضلاً عن اللجوء لعصابات المستوطنين الخارجين عن قانون دولة الاحتلال نفسها. هو تكتيكٌ يستعد فيه اليمين الصهيوني والديني إلى استكمال العمل الناقص من التطهير العرقي الشامل في عموم فلسطين التاريخية الانتدابية، والذي لم يكتمل إجراؤه مع العلمانيين الإسرائيليين الأوائل عام 1948، أو ما تلا النكبة.

سيؤدّي فرط المناعة بإسرائيل إلى فقدان المناعة بالتدريج، لما تمنحه من شعور بالاسترخاء، يدفع إلى تصعيد التنافس على الزعامة السياسية بين الأحزاب المتنافسة، ويقلص قدرتها على مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتفاقمة، كما في حالة الأمراض المناعية التي من أهم أعراضها مهاجمة أعضائها وشلها. ربما لو قيل هذا الكلام منذ سنة، لاعتبره كثيرون ضرباً من الخيال والتمنّي، لكنه اليوم يتخذ شكلاً ملموساً مهما بدت الاعتداءات على غزّة مدمّرة، ومهما بدت الانتهاكات الإسرائيلية للشعب الفلسطيني مرعبة ومتوحّشة، ومهما أجمع الإسرائيليون واتفقوا على قتل الفلسطينيين والفلسطينيات، وقضم أراضيهم والتفاخر بما يُضمرونه جميعاً في التخطيط لطرد من تبقّوا من فلسطينيين وفلسطينيات من أرضهم. فإن ما لا يعوزهم استعماله في فائض القوة سوف ينقلب عليهم ويرتد إليهم. وما يحدُث حالياً ما هو إلا البداية فقط.

مقالات ذات صلة