فاغنر وأسئلة الأمن الدولي

المهدي مبروك

حرير- لا يعدّ ما حدث في روسيا أخيراً شأناً روسياً محضاً، وإن كان جل الفاعلين روساً. ثمة أشياء ظاهرة من جبل الجليد وهي مهمة، ولكن ما خفي منه أعظم. قد تبدو تفاصيل الأحداث أشبه بفيلم خيالي: المفاجآت الغريبة، المصادفات العجيبة، وتبديد كل ما نتوّهم أنه حبكة عقلانية، يسندها المنطق في توضيب الأحداث وتسلسلها.

كنّا، إلى وقت قريب، نظن أن مجموعة فاغنر ليست في النهاية سوى ذراع متقدّمة للقوات الروسية، توكل إليها المهام القذرة، لتظلّ متمتّعة دوماً بحالة الإنكار. والمجموعة، في النهاية، كائن هجين بكل ما في الكلمة من معنى: مقاتلون أشبه بالمرتزقة، لا يدافعون عن وطنهم، بل عما يعتقد حكّامهم أن لهم فيه مصلحة، قدرات قتالية عالية لا تخلو من وحشية، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، غموض قانوني يجعلها في حلٍّ من التزامات دولية عديدة في أثناء النزاعات والأزمات.

لم نكن، نحن العرب، نعلم عن “فاغنر” وغيرها الكثير. كانت ثقافتنا الأمنية والعسكرية بالمعنى الواسع للنزاعات الدولية تقليدية: لا ترى من قوات قتالية سوى الجيوش النظامية، وبعض المجموعات المسلحة الإرهابية، أي الخارجة عن القانون، على اعتبارها مليشيات. وإذا ذهب خيالنا بعيداً، انتبهنا إلى المرتزقة الذين ما زلنا نذكر منهم الفرنسي بوب دينار الذي تحكّم في مصائر حكّام في أفريقيا، وفرض كما شاء شروطه، وأطاح بعضهم، وحاول مرّاتٍ عديدة فرض آخرين. ولعل بعضنا يتذكّر الإنزال الذي قام به على سواحل جزر القمر سنة 1995. استفادت أنظمة عديدة من خدماته التي توزّعت على الاستشارات والاستخبارات وتنفيذ عمليات عسكرية وتدريب جيوشٍ وقوات خاصة.

فرقٌ كبير بين ما قدّمه بوب دينار في العقود الأخيرة من القرن الماضي لفائدة فرنسا، وما تقدّمه حالياً “فاغنر” لروسيا. علينا أن نقرّ أن فرنسا قد استفادت كثيراً من الخدمات التي كان ينفذّها بوب دينار، ولكن فرنسا الرسمية، رئاسة الجمهورية، رئاسة الحكومة، وزارة الدفاع، لم تكن قادرة على مجرّد التلويح بأنها على صلة ما به، بل حاكمته من حينٍ إلى آخر، وإنْ لم يخل الأمر ضمنياً من غضّ طرفٍ قد يصل إلى تواطؤ. وهذا يختلف تماماً مع “فاغنر” التي تعدّ أحد ابتكارات الجيش الروسي في بداية الألفية الثالثة، فهذه المجموعة ليست مرتزقة بالمعنى التقليدي للكلمة، بل لا تعدو أن تكون ابتكاراً، جاء أعقاب تلك الشهرة/ السمعة السيئة التي حازتها شركة بلاك ووتر الأميركية التي اكتشفناها مع الحرب الأميركية على العراق. هي هجين من التنظيم الملتبس الذي يتراوح ما بين الشركة الخاصة والتنظيم المسلح ووكالة خدمات أمنية.. تعرّف في أدبيات كثيرة بأنها مجموعة أشبه بمؤسّسة مقاولات أمنية وعسكرية متعدّدة الخدمات.

حثت “بلاك ووتر” بنجاحاتها، والتي أخفق الجيش الأميركي عن إنجازها، أو أحجم، لاعتبارات قانونية وسياسية وأخلاقية، وتخلّى عنها لفائدة تلك الشركة سيئة السمعة، الكرملين، وتحديداً الرئيس بوتين، على أن يحاكي هذا النموذج. جاءت هذه المبادرة في سياقاتٍ كانت فيها روسيا بوتين تطمح في لعب دور جيوسياسي، يُعيد إليها هيبتها، بعد التفكّك الكبير الذي شهده الاتحاد السوفييتي، والانكفاء الذي عاشته روسيا عقدين أو أكثر. كان بوتين، من خلال “خطابات القسم” وحتى في ليلة إعلان حربه على أوكرانيا، يعود إلى سردية المجد الروسي الضائع الذي اجتباه القدر لاستعادته.

وبقطع النظر عن دقّة الرابط الهيكلي الرسمي بين “فاغنر” والمؤسّسة العسكرية الروسية، تبرهن العقود التي ظهرت على السطح أن الجيش الروسي يستفيد، بشكل مباشر، من خدمات هذه الشركة. وتؤكّد تقارير عديدة أصدرتها منظماتٌ دولية مختصّة في الشؤون الأمنية أن المجموعة قدّمت للجيش الروسي خدمات عدة في بلدانٍ، مثل سورية وليبيا وأوكرانيا، فضلاً عن دول أفريقية عدة، على غرار مالي وأفريقيا الوسطى والسودان. تراوحت الخدمات التي أنجزتها بالوكالة عن الجيش الروسي ما بين القتال، وبناء قواعد عسكرية، وأعمال استخباراتية رفيعة، وإجراء مفاوضات شاقّة.

على خلاف “بلاك ووتر” التي اكتفت بتقديم خدماتها لفائدة الجيش الأميركي، وفق إطار محدّد، وبعيداً عن مغامرات بوب دينار، طوْراً لفائدة مصلحته الخاصة المادية المحضة، وآخر لمصالح فرنسا، وبعض من حكم في أفريقيا، قدّمت “فاغنر” نمطاً فريداً من هذه المجموعات الأمنية غير النمطية التي لا تشبه غيرها من المليشيات ولا مجموعات المرتزقة، ولا أيضاً حتى شركة بلاك ووتر. إنها تتقاطع مع هذه التنظيمات كلها، من حيث نوع الخدمات الأمنية والعسكرية التي تنفّذها لفائدة الغير، وهو عادة مؤسّسات عسكرية تنتمي إليها هذه الشركات (الجيوش الفرنسي والأميركي والروسي). ولكن يبدو أننا باتجاه مجموعة منخرطة في الطموحات السياسية، الداخلية والخارجية. يحرص قائد “فاغنر” يفغيني بريغوجين، من خلال نمط إدارته وتواصله، على تقديم نفسه زعيماً وطنياً روسياً، له مواقف وتصوّرات ورؤى.

هذا النموذج القيادي لإحدى الشركات الأمنية الأكثر عنفاً ووحشية وحضوراً في ساحة النزاعات الدولية الراهنة لن يهدّد السلم الداخلي الروسي فحسب، بل قد يهدّد العالمي أيضاً. لا يعبّر التمرّد الذي قاده بريغوجين عن امتعاضه الشخصي تجاه أداء جيش بلاده في حربه على أوكرانيا، بل يؤكّد مرّة أخرى عدم الرضا عن المهام التقليدية التي أدتها الشركات الأمنية عموماً. لن نكون إزاء مقاتلين يعودون إلى بيوتهم حال إنجاز تلك المهام، بل إننا قد نشهد صعود هذه الشركات إلى الحكمين، المحلّي والدولي. لنتخيّل، ولو للحظة، ماذا سيكون حال السلم الدولي، لو امتلكت هذه الشركات قوة ردع نووية، أو ما شابه ذلك، والأمر غير مستبعدٍ قريباً.

مقالات ذات صلة