عن اغتيال المقاوم الفلسطيني نفسياً

عصام شعبان

حرير- في مشهد الحرب، تعمل استراتيجية الدعاية الصهيونية على تشويه الفلسطيني المقاوم، بكل السبل، عبر وسائل إعلامها. تروّج الأكاذيب وتحاول تثبيتها كحقائق للتداول، عالميا وعربيا. وخلال ذلك، تستهدف فصائل المقاومة وقياداتها، ويروج أن عملية 7 أكتوبر متاجرة بالقضية الفلسطينية مع أطراف خارجية، وأن قيادات حركة حماس تحوز مكاسب شخصية، فهي تسعد مع أسرها برغد العيش في الفنادق في الخارج، بينما يعيش أهل القطاع البؤس، محاصرين جوعى، ويسرق أعضاء “حماس” المساعدات، أي أن المقاومين، كقيادة، متاجرون بقضية الشعب، وكأفراد لصوص. والتشويه هنا أداة إرباك للجمهور، تهدف إلى التأثير على المشاعر وتصعيد معدلات القلق، وإنتاج مساحات من الهشاشة النفسية، تُضاف إلى صدمة الحرب، بما يسهل تغيير القناعات والمواقف لدى الجمهور، وكسر صمودهم.

وفى محاولة لتقويض المقاومة، تركّز إسرائيل على الداخل الفلسطيني، الذي يجب أن يندم على أي فعل مقاوم، وهو يشاهد قطاع غزّة مدمّرا، محتلاً لا محرّراً، وأهل الضفة مقيدين، تُرتكب ضدّهم أعمال القتل والاعتقال، وبدلا من الإفراج عن أسراهم أو تحسين ظروف سجن هؤلاء الأسرى، ينكّل بهم ويضاف إليهم آلاف.

تهدف أدوات العقاب تلك، بجانب تصوير فصائل المقاومة عناصر انتهازية، وأنانية لا يهمّها سوى مصالحها، إلى إنتاج صراع نفسي داخلي، يتزامن مع العقاب الجماعي، ليصل بعضهم إلى أن لا فائدة من فصائل مقاومة، تلحق الأذى بمواطنين عزّل في قطاع غزة.

ولكن الواقع أمام الجميع، لمن يريد أن يستبصر، أن العدوان الإسرائيلي يُمارس على أهل قطاع غزّة والضفة الغربية، ولا يستند على موقع جغرافي، بقدر ارتباطه بالموقف من الاحتلال، ومن ذلك قتل المثقف الفلسطيني وليد دقّة، وهو في الأسر منذ 37 عاماً، وبشكل مقصود، بعد أن مدّد الاحتلال سجنه عامين، رغم مرضه بالسرطان، كأداة إفناء الجسد بعد تقييده، بما يمثل اغتيالاً يهدف إلى كسر صمودٍ مدفوعٍ بحبّ الحياة والحرية. لم يمنعه طول فترة السجن من أن يفكّر ويناقش ويبدع، ردّاً على محاولات هزيمته، وهو المتبنّي فكرة المقاومة فعلاً وممارسة. يريد الاحتلال إنهاء هذه الحالة، وتشويه شخوصها، وهزيمة أرواحهم، واغتيالهم نفسيا، كلما أمكن، وعزلهم، استكمالاً للحصار جغرافيا بين سكّان غزّة والضفة الغربية، وبين الضفة ومجمل الأراضي المحتلة، عبر حواجز مادية وأخرى نفسية، يستخدم فيها التنكيل والقهر، ويكشف عن طبيعته السيكولوجية العدوانية والاستعلائية.

يركّز الاحتلال على قطاع غزّة ساحة حربٍ متكاملة، محاولاً إخضاع سكّانه عبر الانتقام، ويوظّف كل أدوات الحرب، لتشكّل معا ضغطاً نفسياً واجتماعياً، على دوائر متصلة يُراد قطع وصلها، وتفكيك لحمتها النفسية والاجتماعية، يضغط على مجمل السكّان بالحصار والاستهداف العسكري، الذى لا ينقطع، ويهدّد بتوسعيه في رفح. وعبر تشويه السمعة، يحاول تفكيك الحاضنة الشعبية للمقاومة ونبذها اجتماعيا عبر التشويه، بما يساهم في حلحلة وإضعاف الصمود النفسي، وتوجيه الغضب إلى المقاومة، لكي تقدّم تنازلاتٍ في جولات التفاوض، هدفاً مباشراً، متّصلاً بهدفٍ استراتيجي، نفي المقاومة فكرةً وتنظيماتٍ وأفراداً.

ويأتي الاغتيال النفسي، للأفراد والجماعات، سلوكاً مستمرّاً، بوصفه تكتيكاً للحرب، يمارَس عبر الأكاذيب والتشويه وسلوكيات عدوانية، تتفاوت درجاتها حسب تطورات المواجهة الميدانية أو ظروف اعتيادية (أو ما يجب ان نعتبره اعتيادياً من احتلال وحصار). ومع جريمة استهداف ثلاثة من أبناء رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، وأربعة أحفاد، يزيد عدد شهداء عائلته إلى أكثر من 60، يعلن جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية أن الاغتيال كان مبنياً على معلومات استخبارية، استهدف عناصر من “حماس”، كانوا في طريقهم لتنفيذ عملية عسكرية. وهذا تبريرٌ لم تصدّقه صحف إسرائيلية، لأن السيارة التي قصفت كانت تقل أطفالاً، وربما يريد الاحتلال أن تكون الرواية من الأصل غير مصدّقة. تلقى هنيّة الرسالة، معلقا أن أبناءه ليسوا أفضل من شهداء قدّموا دماءهم للدفاع عن حرية شعبهم، وأن الاستهداف لن يمنع استمرار التفاوض لوقف الحرب وعودة النازحين.

قبل الجريمة، كان لافتا أن “حماس” لم تردّ على أكاذيب سابقة، يروّجها الاحتلال، غرضها هزّ الثقة في قيادة المقاومة، كما ادّعاء انفصال أبناء القيادات عن سكان غزّة، سواء جاء في منشورات تلقيها طائرات الاحتلال أو تبثّها صوتيا المسيّرات، تتضمّن سخرية وتحقيراً للمقاومة، وتتبنّاها وسائل إعلام، وتتبرّع بدور المحقّق شكلاً والمحرّض مضموناً، تفتش في سجل عائلات المقاومة وتتبعها، وتناقش بهدف تعظيم مشاعر العداء تجاههم، كيف وأين يعيشون. بينما يعرف أهل القطاع، بحكم تفاعلاتٍ اجتماعية، جوانب من حياة أسر قادة المقاومة، ليسوا منعزلين، يذهبون إلى مدارس حكومية، ويتشاركون ظروف العيش نفسها في شريط ضيق محاصر، وتُنشر حول ذلك شهادات، بعد الجريمة التي طاولت أبناء لإسماعيل هنية وأحفاداً، والذين ظلوا في مخيم الشاطئ شمال القطاع.

ومع الاغتيال، اتّضح كذب دعاية سابقة، لكن آخرين ذهبوا إلى البحث عن باقي سجل العائلة، أين يقيمون حالياً، في غزّة أو خارجها. يضعنا سلوك التلفيق والكذب أمام معضلةٍ حقيقية أن يعتبر قطاعٌ من الجمهور أنه رقيبٌ على الحياة الخاصة، وأن تقيّد حركة الفلسطيني المشتغل بالعمل أمراً طبيعياً، وإنْ لم يقيّد فهناك شكوكٌ تدفع إلى تتبع سجل تحرّكاته مع أسرته، بحثا عن نقصٍ في النزاهة وفرص للتربّح. وتظهر هذه الفطنة المدّعاة فقط مع فصائل المقاومة، ولا تظهر مع من يصطفّون مع جبهة الاحتلال، ولا تتناول لصوصاً فعليين ينهبون أموال شعوب تعيش تحت وقع الفساد والاستبداد.

إجمالا، يهدف الاغتيال النفسي، الذي يمارسه الاحتلال، بما فيه من تشويه قادة المقاومة وأفرادهم، إلى النيْل من عزيمتها، وكسر صمودها، وتشويه صورتها الرمزية، وهو تكتيك حرب، غرضه إلحاق الهزيمة النفسية بصفوف المقاومة ومحيطها، بعد أن عجز الاحتلال عن وقف عمليات المقاومة وإخضاعها في ساحة التفاوض.

ويتّخذ الاغتيال من بثّ الأكاذيب وهزّ الثقة في المقاومة أداةً لتحطيم المعنويات، وتعظيم المعاناة الحياتية، عبر صراع نفسي مستجدّ، تدرك إسرائيل أن حصار المقاومين عبر محاولات التشويه يُحدِث ارتباكا وينال من الصمود النفسي، وهو هدفٌ ضروري يمهّد لبيئة تسهل تحقيق هدفها النهائي، تقويض المقاومة وسلطة حركة حماس، وتغيير الواقع السياسي في قطاع غزّة الذي يمثل تحدّيا ضخما، ليس من الممكن حسمُه عسكريا. لذا؛ تستخدم كل أدوات الحرب، اقتصاديا وعسكرياً وإعلامياّ، وتمارس الضغوط النفسية في دوائر ثلاث: تستهدف الأولى مجمل السكان الذين تعرّضوا لصدمة الحرب وتداعياتها، مع قصفٍ يومي مقصود، وتستهدف الثانية أفراد المقاومة وتنظيماتها في الميدان، وعلى عاتقها مسؤولية للدفاع ومواجهة جرائم الاحتلال، وبينما وهم في المعركة، يتعرّضون لضغوط واتهامات، أكثرها قسوةً أنهم منفصلون عن أبناء شعبهم، انتهازيون يحققون مصالح شخصية، وهذا يفضي إلى نزع الشرعية والمصداقية عنها. وتستهدف الدائرة الثالثة الرأي العام العربي، وتحاول عزله عن القضية الفلسطينية، عبر تشويه المقاومة، وتحميلها أسباب العدوان، فيما رموزها تقتل ومقارّ حكمها تهدم، أي تُدمّر رمزيتها المعنوية والمادية معا.

ولكن جولة الحرب الدعائية، التي تخوضها إسرائيل اليوم، ضد المقاومة، لم تعد، رغم ما تحصُده من مساندة، تحقّق أغراضها، فسرعان ما تدحض الممارسات الروايات المختلقة، كما لم تلغ التفاصيل التي يُراد أن نغرق فيها صورةً كلية للعدوان توسّع دوائر التبصر والتضامن، هذا من دون إغفال لخسائر وتضحيات كبرى، وحقّا في نقد ممارسات لحركة حماس وتصوّراتٍ سياسيةٍ لها، لكن من دون اصطفافٍ مع منطق المحتل.

مقالات ذات صلة