إسرائيل تصعد إلى الهاوية

سامية عيسى

حرير- كُتب الكثير عن الإعصار الذي يجتاح المجتمع الإسرائيلي منذ شهرين على خلفية التصدّي لمشروع التعديلات القضائية التي تمس بالعمق صلاحيات المحكمة العليا الإسرائيلية، والمضمون الديمقراطي المزعوم للدولة. وفي حين فاجأت التصدّعات التي تكتنف المجتمع الإسرائيلي بعضهم، إلا أنها لم تفاجئ كثيرين أيضا، فهي متوقّعة منذ تأسيس دولة إسرائيل، بوصفها دولة ديمقراطية لليهود دون غيرهم إلا ما توجب من فتات حقوق تمنح لفلسطينيي 48، تتيح لإسرائيل تلميع صورتها الفجّة بوصفها دولة آبارتهايد لا تتورّع منذ عام 1948 عن ارتكاب المجازر بحق الشعب الفلسطيني وتضييق الخناق عليهم وشلّ حركتهم، بما يمنعهم من النهوض واستعادة حقوقهم التاريخية في وطنهم فلسطين، إن عبر مصادرة أملاكهم والاستمرار في التنكيل بهم، سواء في الأراضي المحتلة عام 1948، أو التي احتلت عام 1967 في الضفة الغربية أو قطاع غزة بعد تشديد الحصار عليه، أو في القتل الفردي الممنهج المتواصل، أوعبر حروب تدميرية متعاقبة منذ انسحابها عام 2005 من القطاع.

ربما يغيب عن كثيرين أن هذا كله يجري منذ تأسيس دولة إسرائيل تحت غطاء المحكمة العليا الإسرائيلية وتشريعاتها العنصرية ضد الشعب الفلسطيني، في فلسطين التاريخية وصولا إلى مخيمات اللاجئين، بالتواطؤ مع أنظمة عربية ضيّقت الخناق على اللاجئين، وأقدمت على ارتكاب مجازر بحقهم، إن عبر سلطاتها الأمنية أو مليشيات رعتها هذه الأنظمة. ولا ننسى ولن ننسى أن تلك المحكمة العليا هي من أصدرت أخيرا تشريعاتٍ لإقامة مستوطناتٍ غير شرعية على أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس المحتلة. وهي أيضا التي أصدرت القوانين التي ساهمت في تهويد القدس، ومنها نزع حق الملكية عن منازل أهالي حي الشيخ جراح ومنحها ليهود بوصفها إرثا لهم عبر تزييف قوانين الملكية. هذا فضلا عن تعسّفها القانوني ضد الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال، وكثر منهم ما يزال اعتقالهم/ن إداريا من غير محاكمات. قد يمتدّ هذا الاعتقال ليدوم سنوات طوالا في مخالفة صريحة للقانون الدولي الإنساني، بل الإسرائيلي نفسه. جرى ذلك في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ النكبة، لا فرق بين من يتولى السلطة فيها، أكان يسارا علمانيا، أم وسطا، أم يمينا ويمينا صهيونيا دينيا متطرّفا، ما دام أن المستهدفين هم الفلسطينيون والفلسطينيات، خصوصا ممن يقاومون الاحتلال، في حقّ شرعيّ لهم ترعاه المبادئ والقوانين الدولية، التي تجرّم العنصرية التي وصمت إسرائيل عقودا منذ تأسيسها. تلك التصدّعات التي تكتنف إسرائيل، وعبرت عن أزمة سياسية عميقة، دفعت إلى إجراء خمسة انتخابات تشريعية في غضون سنتين، فالمعارضة التي تكتسح الشارع الإسرائيلي منذ شهرين، وتتصاعد وتيرتها لحماية المحكمة العليا، ستخوض احتجاجات أخرى قريبا قد تتناول طريقة اللباس، أو فرض عقوباتٍ على من يخالف طقوس دولة الشريعة التوراتية، أو أشياء تفوق المخيّلة يجري التحضير لها.

فالخلاف الذي نراه اليوم ليس بسبب الخوف على الديمقراطية “الزائفة” التي يُستثنى منها فلسطينيو 1948، إنه الخوف من المسار الذى سيؤدّي إلى ديكتاتورية دينية متشدّدة ستتحول معها إسرائيل إلى دولة فاشية داعشية، أو ملالية على النمط الإيراني، تهدد المجتمع الإسرائيلي نفسه، بل الدولة بأسرها. تلك الدولة التي قامت على خرافة أرض الميعاد وشعب الله المختار، وأسست لمضمون ديمقراطي مشوّه، كان واضحا منذ البداية أن هذا المزيج المشوّه سينقلب يوما عليها. وأن ذلك التناقض بين ما تدّعيه إسرائيل من أحقية إلهية بأرض فلسطين وما تتغطّى به بديمقراطيتها الكاذبة هو الحفرة التي حفرتها لنفسها، خصوصا مع بدء تحوّلها من دولة آبارتهايد ضد الفلسطينيين والفلسطينيات إلى دولة الشريعة والنظام الفاشي ضد مواطنيها اليهود أنفسهم أيضا، ممن أسّسوا الدولة، ويرفضون العيش ضمن نظام ديكتاتوري يهدّد نمط الحياة العلمانية التي تعودوا عليها، كما حرّياتهم الفردية والعامة. لا يعدو تأجيل البتّ بالتعديلات القضائية كونه مجرّد تكتيك لتخفيف الضغط، سواء داخل إسرائيل وفي صفوف الجيش، أو لتخفيف العزلة الدولية عن الائتلاف الحكومي. لكن المسار سيستمرّ في الانحدار. خصوصا مع تصاعد نسبة المؤيدين لليمين القومي وتيار الصهيونية الدينية المتطرّفة بين الشبيبة الإسرائيلية، بحسب استطلاع يجريه كل ست سنوات مركز ماكرو الإسرائيلي بتمويل من صندوق مؤسّسة فريدريك إيبرت الألماني، وصلت إلى 58%، تأييدا لليمين الصهيوني الديني والقومي المتشدّد.

لكن هذا الخلاف بين المعارضة الإسرائيلية وهذا اليمين لن يتجاوز التسابق بينهما على قتل الفلسطينيين، وهو ما كان قائما على الدوام بين مختلف الكتل السياسية، سواء من يسار ووسط ويمين صهيوني متطرّف دينيا وقوميا. وإن كان التحوّل في نظام الأبارتهايد اليوم ومنذ تأسيس إسرائيل لا بد أن يصل (ووصل فعلا) إلى أن يرتدّ على نفسه ليخلق وحشا فاشيا يتهدّد اليهود أنفسهم (وطبعا الشعب الفلسطيني برمته)، ويهدد بمخاطر وجودية لطرفي الصراع بين الجماعات العلمانية واليمين الصهيوني الديني المتطرّف، قد يؤدّي إلى حرب أهلية بدأت مؤشّراتها تظهر مع القمع المتمادي للمظاهرات الاحتجاجية المستمرّة ضد التعديلات القضائية رغم تأجيل البت بها. لكن ما يجب أن يبعث على القلق أن التحوّل نحو الفاشية يهدّد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وعموم فلسطين ربما بأخطر مما حدث في نكبة 1948 من جرائم ومجازر. وها هي تداعياته بدأت تظهر في الحرائق التي أشعلتها مليشيات المستوطنين، حين أطلِقت أيديهم وبمشاركة الجيش أو تغطيته في حرق منازل الفلسطينيين ومتاجرهم وممتلكاتهم والتهديد بمحو بلدة حوّارة من الوجود على لسان وزير المالية، يتسلئيل سموتريتش، فيما الفلسطينيون والفلسطينيات لا يملكون سوى صدورهم العارية، إلا من بعض فدائيين عقدوا العزم على النضال المسلح، جنبا إلى جنب مع نضالات الشعب الفلسطيني السلمية.

بدأ العد التنازلي لدولة إسرائيل. ومخطئ من يعتقد أن ما يحدُث من تصدّعات داخل المجتمع الإسرائيلي هو نتاج خلافات سياسية وعقائدية فقط. بل هو أيضا نتاج المقاومة المستمرّة للشعب الفلسطيني للاحتلال في كل أراضي فلسطين التاريخية. ومخطئ من يعتقد أن ما حدث من هبّة شاملة في مايو/ أيار 2021 ضد ما حدث من انتهاكات ونزع ملكية منازل أهالي حي الشيخ جرّاح في ذلك الوقت ليس له تأثير في هذه التصدّعات. كانت تلك الهبّة بداية التحول في النضال الفلسطيني الذي عبر عن نفسه باتجاه تنظيم هذا التحوّل عبر تشكيلات عسكرية شديدة البأس وعابرة للفصائل، من عناصر كتيبتي نابلس وجنين إلى عرين الأسود الذين يذكّروننا بنموذج رائد من مناضلي كتيبة الجرمق (الكتيبة الطلابية)، إن بالشجاعة والإقدام أو بالاستعداد لبذل التضحيات الجسام. حافظ أبناء الشعب الفلسطيني وبناته (مثل ذويهم) على إبقاء جذوة النضال الوطني مشتعلة، مهما خبت أو تضاءل بريقها من حين إلى آخر، فالفدائيون الجدد بنوا على تجربة من سبقهم وتسلحوا بالعزيمة قبل البنادق واحترفوا التخفّي، فما وصل إليه المجتمع الإسرائيلي اليوم من تصدّعات تجتمع عوامل عديدة في التسبّب بها. لكن في مقدمة هذه العوامل الخوف الذي يزرعه الفلسطينيون والفلسطينيات بصمودهم وبكل أشكال النضال التي يلجأون إليها ويهدّدون بها الوجود الصهيوني على أرض فلسطين، فتفكيك المضمون الصهيوني لدولة إسرائيل لم يبدأ اليوم، بل منذ عقود. وتزداد وتيرته وتتصاعد مع تصاعد الانتفاضات الفلسطينية المتكرّرة، مهما تواضعت أو تراجعت حينا، لكنها تتطوّر في كل مرة عبر إبداعات شعب الجبارين، كما كان يطلق عليهم الزعيم الراحل ياسر عرفات.

يتصاعد العناد الفلسطيني في التصدّي للاحتلال ومستوطنيه رغم إمكانات الشعب الفلسطيني المتواضعة، ورغم فساد السلطة وتواطؤها مع الاحتلال، ورغم الانقسام وحالة انسداد الأفق. كانت هبة أيار 2021 بداية التحول في المسار النضالي الجديد وإعادة الأمور إلى نصابها. وليس من قبيل المصادفة أن تتزامن مع بداية انهيار دولة إسرائيل وتصاعد العمليات العسكرية الفلسطينية ضدها. وإن كنا لا نزال نعتقد أن السلاح ليس الطريق الوحيد للنضال، لكنه ضروري، حين لا يستجيب الاحتلال ومستوطنوه المجرمون للتهديدات السلمية التي يشكلها نضال الفلسطينيين والفلسطينيات. فما زالت عمليات اضرب واهرب فعّالة ضد الاحتلال ومليشياته من المستوطنين. فعّالة وموجعة. حتى بمواجهة العنف العاري الذي يمارسه إيتمار بن غفير وبتسيلئيل سموتريتش ونتنياهو وغيرهم من وزراء اليمين المتطرّف في حكومةٍ مهما زادت من جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، فإن هذه الجرائم سترتدّ عليها بحكم التاريخ. ولعل النهاية التي وصلت إليها ألمانيا النازية، إن بإبادتها اليهود أو بالفظاعات التي تسببت بها في أثناء الحرب العالمية الثانية خير دليل على ذلك، وسترى دولة إسرائيل نهايتها منذ الآن حين تنظر إلى مرآة نفسها.

ما يحدث في الشارع الإسرائيلي يهدد إسرائيل وجوديا، ويمنح الشعب الفلسطيني فرصة للانقضاض عليها. نقاط الضعف في إسرائيل ستتضاعف على وقع تصدّعاتها ليتّسع الشرخ وينهار الهيكل على ساكنيه. يجب ألا ننسى أن هذا المصير الأسود الذي ينتظر إسرائيل بدأت ملامحه تتضح منذ الهبة الشاملة للشعب الفلسطيني في كل فلسطين التاريخية التي أينعت أسودا في كل حي وشارع ومدينة.

مقالات ذات صلة