طفح الكيل”.. محمد أبو رمان

عبّر رئيس الوزراء د. عمر الرزاز، بقوة، عن حجم أزمة الثقة الواضحة والسافرة بين المواطن والحكومات المتعاقبة، ولم يكابر ويمارس حالة الإنكار لها، بل قال بوضوح “لقد طفح الكيل لدى المواطن، وبات يضيق بكل السياسات والقرارات التي نتخذها، فدخله لم يتحسّن، بل تراجع مع تراجع القوة الشرائية”.

ثمة أزمة مالية واقتصادية صحيح، وهنالك ظروف إقليمية لها انعكاسات شديدة الوطأة على الاقتصاد الوطني، وكذلك الأمر أعباء كبيرة مرتبطة بتراجع الاستثمار نتيجة هذه الظروف، واستقبال الأشقاء اللاجئين، ومعدل بطالة وصل إلى مستويات غير مسبوقة، كل ذلك صحيح، لكن الأزمة الأكثر أهمية وخطورة هي أزمة الثقة بين المؤسسات السياسية عموماً والمواطنين.

ليست فقط أزمة ثقة سياسية، بل أزمة سياسية لدى الدولة نفسها مع غياب الرؤية الحقيقية لدى المسؤولين: أين نقف؟ ماذا نريد؟ كيف نعرّف المشكلات الراهنة؟ ما هي استراتيجيات الحل؟.. نعم أيّها السادة نحن في تخبط مستمر منذ فترة طويلة، لا نضع مخططات استراتيجية أو سياسات مستقبلية إلاّ ونرميها في الأدراج، وننقلب عليها أو نتجاهلها قبل أن يجف حبرها!

لدينا مشكلة في تعريف جوهر علاقة الدولة بالمواطن. نعم في الدستور واضحة، كما هي في دساتير العالم أجمع، لكن في تطبيق الدستور وترجمته على أرض الواقع والسياسات العامة المتراكمة هنالك منطقة رمادية كبيرة نمت وعشعشت خلال الفترة الماضية، وتراكمت تلك السياسات حتى أصبح المواطن لا يعرف تحديداً ماذا تريد الدولة؟ ولا الدولة حددت ماذا يريد المواطن؟ هل هي علاقة واضحة من سيادة القانون والمواطنة والحقوق والواجبات أم أنّها علاقة ملتبسة، توقعات متعددة ومتضاربة، وهذا هو الواقع الحقيقي!

لذلك لا أعرف مصدر التخوف الموهوم لدى سياسيين ومثقفين من طرح مفهوم “العقد الاجتماعي الجديد”، فهو واضح أنّه يريد تحديد معالم العلاقة ويعرّفها لأنّها لم تعد واضحة، وليس نقيضاً للدستور، بل تطبيق لمبادئه وبنوده، وتصحيح لمسار خاطئ خلال الأعوام الماضية قام على منطق سياسات الاسترضاء، بخاصة في مجال التوظيف والتنفيع والمكاسب السياسية لأفراد وشرائح، ما جعل من ذلك أشبه بـ”الحقوق المكتسبة”، وهو اسم حركي لتجاوز القانون وقيم العدالة والنزاهة والمساواة أمام القانون، كما تراخت الدولة في مجالات متعددة عن تطبيق القانون، فدفعنا -وما نزال- ثمناً باهظاً لهذه الانحرافات الكبيرة عن القيم السياسية التي تحقق التقدم وتسير بنا إلى المستقبل.

العقد الاجتماعي الجديد، بهذا المعنى، هو نظرية للدولة Theory of the State، أشبه بدليل يوضّح: ماذا يتوقع المواطن من الدولة؟ وماذا تتوقع الدولة من المواطن؟ ويحدد مبادئ الإصلاح المطلوب في المجالات المختلفة للمرحلة المقبلة؛ الإصلاح السياسي، المالي، الاقتصادي، التعليمي، الإداري.

الأولوية اليوم لترتيب بيتنا الداخلي بعناية شديدة وتحديد الخطة المطلوبة لذلك، وتبديد الترسبات السياسية والاقتصادية والمالية التي ارتبطت بالمرحلة السابقة، وأن نفكّر جدياً وعميقاً بماذا نريد في المستقبل؟ كيف نسير نحو الأفضل؟ فهنالك سياسات ثبت أنّها أضرّت بنا كثيراً وعطّلت عجلة التنمية، بل أعادتنا إلى الوراء بصورة متسارعة.

الحكومة قدّمت خطاباً جيّداً، لكن المشكلات لا تعالج بالخطابات، ما تزال كلّها رسائل “نوايا حسنة”، المهم أن يُترجم ذلك من خلال سياسات وخطوات إصلاحية واضحة وقوية في المستقبل؛ إذ نحتاج اليوم لحكومة حقيقية سياسية، وإلى رجال دولة يقومون بهذه القفزة الانتقالية على صعيد التفكير أولاً والعمل ثانياً، وهذا هو المضمون الحقيقي للعقد الاجتماعي أو النهج الجديد أو مشروع النهضة الوطنية أيّا كانت التسمية.

مقالات ذات صلة