غزّة وانسحاب أولئك من العروبة

سامر خير أحمد

حرير- نداءات الانسحاب من العروبة، التي تزايدت في السنوات الأخيرة في غير بلد عربي، من الشام والعراق إلى مصر وشمال أفريقيا، بدعوى أن أهلها ليسوا عرباً، وإنما جرى تعريبهم عقب “الغزو” العربي لبلادهم في القرن الهجري الأول بغرض إدخالها في الإسلام، تتزايد حدّتها ويرتفع صوتُها في الأزمة التي نعبرها اليوم نتيجة الحرب على غزّة، المتمثلة في عدم قدرة الشعوب العربية على نجدة أهلها الذين يواجهون القتل والتدمير وحدهم.

وهكذا يجد أصحاب تلك الأصوات التي تتنكّر لانتسابها العروبي مبرراً أخلاقياً لعدم نجدة غزّة، مفاده ببساطة أنهم ليسوا عرباً، وليس مطلوباً منهم، من ثم، نجدة العرب في فلسطين. لا بل إن تلك الأصوات تذهب في أحيان عديدة إلى “تفهّم” موقف “إسرائيل” وسلوكها عقب “هجمات” 7 أكتوبر/ تشرين الأول، غير المبرّرة برأيهم، ببساطة أيضاً لأنهم ليسوا عرباً، ولا مشكلة عندهم في وجود جارتهم غير العربية “إسرائيل” في الشرق الأوسط، وحقّها في الدفاع عن نفسها ضد هؤلاء العرب الفلسطينيين الذين يريدون القضاء عليها باستخدام “الإرهاب”، كما فعل أسلافهم العرب حين فتحوا بلادهم بحد السيف قبل 14 قرناً.

عند هذا الحد، يصير الموقف من الانتساب للعروبة، في الشام والعراق ومصر وشمال أفريقيا، حدّاً أخلاقياً فاصلاً بين نهجيْن في الحياة، ولا تعود المطالبة بالانسحاب من الانتماء العربي مجرّد نداء شعبوي يتنكّر لأمته تحت وطأة ما تعانيه من تأخّر حضاري، قوامه الاستبداد وضعف التنمية وعدم المساهمة في الحضارة الإنسانية المعاصرة، ولو أن الأمّة العربية تمر في مرحلةٍ مزدهرةٍ من تاريخها لما سمعت أحداً من هؤلاء يتنكّر لها، أو يدّعي عدم انتسابه إليها، وكأنه متأكّد من نسبه لشعوب وقوميات كانت تسكن تلك البلاد قبل إسلامها، إذ ما أدراه أن يكون من سلالة أولئك “الغازين” الذين استقرّوا في البلاد بعد “فتحها”؟ ساعتها، سيكون عليه أن يسلم البلاد لأهلها، وأن يعتذر عن بقاء أجداده فيها، وأن ينسحب نحو جزيرة العرب، كي يكون منسجماً مع خطابه المتحلّل من العروبة.

على أن ذلك الحد الأخلاقي لا يتمثل في وجه واحد، المطالبة بالانسحاب من العروبة، بل في وجهين؛ ثانيهما ذاك الذي ظهر أخيرا في بعض دول الجزيرة العربية، ليبرر تطبيعها المستجدّ مع “إسرائيل”، ثم ليبرّر عدم نصرة غزّة، ومفادُه إنكار عروبة الشعب الفلسطيني، والقول إنه يلصق نفسه بالأمة العربية. هكذا يشقّ أصحاب ذلك الادّعاء المتهافت طريقهم للقول إنهم غير ملزمين بالانتصار لذلك الشعب “غير العربي” المقيم في جنوب بلاد الشام، بل يعتبرون من الطبيعي وجود دولة جيرانهم من “بني إسرائيل” في تلك المنطقة باعتبارهم جاوروا الجزيرة العربية في تاريخ قديم غابر، وبات من حقهم الاستقرار هنا في “بلاد أجدادهم”. ثم يكون من حقّ دولة جيرانهم تلك الدفاع عن نفسها باستخدام كل الأسلحة، في وجه محاولات هؤلاء الفلسطينيين غير العرب للاستيلاء على حقّ بني إسرائيل التاريخي.

ما كل هذه القذارة؟ يعاني أصحاب تلك الأصوات على الوجهين المذكورين أزمة أخلاقية عميقة، ليس في تمسّكهم بالعروبة من عدمها، فذاك شأنهم وباب العروبة مفتوح لخروجهم، بل في اختلاق الأكاذيب التاريخية لتبرير خيانتهم أمتهم، كي لا يظهروا بمظهر الخائنين، ولو أن واحدهم نظر في مرآته قبل أن يقول ما يقول، لأبصر كذبه في عينيه.

يتصرّف أولئك الداعون إلى الانسحاب من العروبة كما لو أن الأمة العربية تتمسّك بهم وترجوهم أن يبقوا عرباً، وأن يعودوا إلى الاعتراف بعروبتهم، بينما هم يصرخون “لا.. لا نريدكم”! والحقيقة أننا، نحن المتمسكين بعروبتنا رغم أحوال أمّتنا المحزنة، لا يعنينا وجودهم بيننا من عدمه. ليذهبوا ويسيحوا في التاريخ، فالوفاء للأمة في محنتها ليس منقّبة ينالها كل أحد.

كذلك حال الذين يستأثرون بالعروبة لأنهم لا يستطيعون إنكارها، فيجدون بديلاً في نزعها عن العرب الآخرين كي لا يكونوا شركاء لهم في التصدي للظلم والعدوان. طيب من قال لكم إننا – نحن المتمسكّين بعروبتنا – ننتظر منكم ختم الموافقة على انتمائنا لأمتنا؟ يا من تخونون أمتكم: لا تظنّوا أن الأمة تنتظر منكم شيئاً.

بين إنكار عروبة الفلسطينيين من جهة، وإنكار الانتماء للأمة العربية التي ينتمي إليها أولئك الفلسطينيون من جهة أخرى، علينا الاعتراف بأن تلك الأصوات موجودة وتتزايد في الأزمات، لكنها شاذّة مهما رفعت صياحها، لأن الأزمات التي يظهر فيها هؤلاء هي ذاتها التي تتبدّى فيها لُحمة الأمة، ولو من غير صياح. ما زالت غالبية أبناء شعوب أمتنا، في جزيرة العرب والعراق والشام ومصر وشمال أفريقيا، على قلب رجل واحد، لا يضرّها من خالفها، تعرف حقوقها وتتمسّك بها، تدرك أنها الباقية والاحتلال زائل كما سُنّة التاريخ، وتأمل بغد أفضل تلفظ فيه شياطينها، وتبني به غدها ومستقبلها لتكون مساهمة في الحضارة الإنسانية من جديد.

مقالات ذات صلة