الاحتلال السرطان الذي ينهش إسرائيل

مصطفى البرغوثي

حرير- وصف زعيم المعارضة الأبرز في إسرائيل، ورئيس أركان جيش الاحتلال السابق، بيني غانتس، ما يجري في إسرائيل من صدام بين الحكومة والمعارضة، بخراب الهيكل الثالث، في إشارة إلى أسطورة انهيارين سابقين للكيان اليهودي.

ولا مبالغة في الأوصاف الحادّة التي تطلق على الانقسام العميق في مجتمع الكيان الإسرائيلي، الذي أدّى إلى خروج نصف مليون متظاهر ضد الانقلاب القضائي الذي يقوده رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. ولعلّ المفارقة الكبرى في سلوك ما تسمّى المعارضة الإسرائيلية أنها، في وقتٍ تعارض حكومة نتنياهو في كل ما يتعلق بشؤون اليهود الإسرائيليين، تؤيدها بشكل مطلق ومن دون تردّد في اعتداءاتها على الشعب الفلسطيني، كما جرى في مخيم جنين وقطاع غزة، وفي توسيعها الاستعمار الاستيطاني وتعميقها منظومة الأبارتهايد العنصرية ضد الشعب الفلسطيني. وهي بذلك تدعم مصنع الاحتلال الذي أفرز الأصولية اليهودية الفاشية التي تعارضها وتغذّيه وتسانده، أي إن المعارضة الإسرائيلية عاجزة، بحكم عنصريّتها أيضاً، عن فهم أنها لن تنجح ما دامت تؤيّد وتدعم باليد اليمنى ما تعارضه باليد اليسرى. وكان لافتاً للنظر تصريح وزير المالية الفاشي الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، أنه تشاور مع حزب يش عتيد، قطب المعارضة الآخر الذي يترأسّه يائير لبيد، في خطّته لفرض الهيمنة الإسرائيلية الاستيطانية على ما تسمى مناطق أ و ب في الضفة الغربية لتدمير فرصة قيام دولة فلسطينية.

لا يوجد في الواقع أي فروق جدّية بين الأحزاب الصهيونية الإسرائيلية تجاه كل ما يتعلق بالشعب الفلسطيني، فمن أقصى اليمين الفاشي إلى ما يسمّى خطأً “اليسار الإسرائيلي” تُجمع الأحزاب الصهيونية على رفض إنهاء الاحتلال بالكامل، وعلى رفض حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والعودة، وتصرّ جميعها على إبقاء القدس بكاملها تحت السيطرة الإسرائيلية، وترفض جميعها إزالة المستعمرات الصهيونية، وتتمسّك بيهودية الكيان الاسرائيلي ونظام الأبارتهايد العنصري. وكما توقع بعض الحكماء الاسرائيليين، الذين لم تُصغِ الأغلبية إليهم، أصبح الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث، والممتزج بنكبة التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، السرطان الذي ينهش الكيان الإسرائيلي من الداخل.

فتح الاحتلال الباب للاستيطان الاستعماري، الذي أفرز الأبارتهايد والفاشية الإسرائيلية التي تدمّر اليوم الجهاز القضائي وتعمل على فرض ديكتاتوريتها، من خلال المسّ باستقلالية القضاء، والسيطرة على تعيينات المحكمة العليا، الحد من صلاحياتها، وصلاحيات المستشار القانوني للحكومة. ولذلك هدفان، فرض سيطرة اليمين الفاشي المتطرّف، وإزالة أي معوّقات قضائية، حتى لو كانت ضعيفة، لعملية ضمّ الضفة الغربية وتهويدها والاستيلاء اللصوصي على أراضيها.

والواقع أن حكومة إسرائيل الحالية ليست سوى ائتلاف بين اليهودية الأصولية الفاشية التي يمثلها بن غفير وسموتريتش ومعسكر التطرّف القومي الذي يمثله بنيامين نتنياهو ومنظومة الفساد التي يجسدها إلى جانب زعيم حزب شاس الديني درعي، وكلاهما متّهم بقضايا فساد عديدة، ودرعي نفسه أُدين وسُجن، ومع ذلك يحاول نتنياهو تدمير الجهاز القضائي لمنع محاكمته، وللسماح لدرعي بالعودة وزيراً في حكومته. وستبقى المعارضة الاسرائيلية عاجزة، ما دامت لا تفهم أنها بتأييدها الاحتلال والاستعمار العنصري تعزّز مصنع الفاشية ذاته الذي أنتج وسيواصل إنتاج من تعارضهم.

ما تشهده إسرائيل ليس مجرّد انقسام داخلي عميق، بل حالة انهيار داخلي، وانقلاب إن نجح سيؤدّي إلى سيطرة الفاشية اليهودية الأصولية، وتعرية الادّعاء الكاذب، أن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. ولذلك آثار خطيرة، أولها التمزّق الذي يشهده جيش الاحتلال بإعلان آلاف من الطيارين والضباط والجنود امتناعهم عن أداء الخدمة الاحتياطية أو التطوّع، ولذلك أثر كبير لأن جنود الاحتياط يمثلون ثلثي جيش الاحتلال الإسرائيلي. وثانيهما، التدهور الاقتصادي بانسحاب استثمارات عديدة من إسرائيل، وخصوصاً استثمارات تكنولوجيا المعلومات، وتراجع البورصة، والعملة الإسرائيلية. وثالثهما، الغضب الذي يجتاح الأوساط الليبرالية اليهودية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، التي شكّلت تاريخياً الداعم الأكبر لبقاء إسرائيل سياسياً واقتصادياً ومعنوياً، والمموّل والمنظم للوبيات الضغط الصهيونية على امتداد العالم، وانفتاح آفاق جديدة لتصاعد نشاطات المقاطعة ضد إسرائيل والتضامن مع الشعب الفلسطيني. ورابعها، الرعب من انكشاف إسرائيل بزوال غطائها القضائي أمام القضاء الدولي، بما في ذلك محكمة الجنايات الدولية، الذي يترافق مع تقديم عشرات الدول مرافعات ضد الاحتلال ونظام الأبارتهايد الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية. ويضاف إلى ذلك كله ترسّخ القناعة لدى الشعب الفلسطيني بانعدام أي فرص للحلول الوسط، أو المفاوضات مع المؤسّسة الصهيونية الحاكمة، والإدراك أن هذه المؤسّسة لا تفهم إلا لغة القوة، ولن تردع إلا بالمقاومة وفرض العقوبات والمقاطعة عليها.

لا تمثل حالة الانقسام الداخلي الإسرائيلي انعطافاً نحو الفاشية الديكتاتورية وحسب، بل هي في الواقع الناتج الطبيعي تاريخياً لمنظومة الاحتلال والاضطهاد العنصرية، ولا حل لها إلا بإسقاط الاحتلال وكل منظومة الأبارتهايد العنصرية. ويمثل هذا الانقسام فرصة إضافية لإضعاف الاحتلال وسيطرته، لو تمكّنت القوى الفلسطينية نفسها من تجاوز انقسامها، وتغليب المصلحة الوطنية على مصالحها الحزبية والفئوية والصراع على سلطة وهمية تعيش تحت الاحتلال.

مقالات ذات صلة