رسالة إلى زيلنسكي لم يكتبها شميلنكي

ممدوح الشيخ

حرير- عزيزي فولوديمير زيلنسكي: عرفتُ بما صدر عنك من إعلانٍ صاخب عن التضامن مع الدولة التي تسمّى “إسرائيل”. واسمح لي، أولًا، أن أعرّفك بنفسي. اسمي بوجدان شميلنكي، وأخاطبك من القرن السابع عشر، حيث عشت. يصفني بعض الأوكرانيين بـ”الزعيم الفلاحي الأوكراني”، وهناك يعتبرونني “محرّر أوكرانيا”، ولي في بعض المدن الأوكرانية تماثيل تخلّد هذه الذكرى. وإذا كنتَ لا تعرف، فإن ختام قصتي كان ثورة شعبية نشبت بين 1648 و1657، نسبها إلي مؤرّخون كثيرون: “انتفاضة شميلنكي”. أما بدايتها فكانت في القرن الخامس عشر في الدولة الجارة بولندا.

آنذاك، كان يحكم جارتنا بولندا أحد أغرب النظم السياسية في التاريخ: ملكٌ لا يكاد يملك سلطة، وطبقة نبلاء تملك السلطة كاملة. وقبل أن يعرف العالم وسائل الانتقال والاتصال الحديثة، كان على النبلاء الاختيار بين العيش في عاصمة البلاد، ليمسكوا بالسلطة السياسية، أو البقاء في الريف لرعاية ضِياعهم التي هي مصدر ثروتهم. ولأن “النبالة” وراثية، فإن نبلاء ممن اختاروا النفوذ السياسي وأهملوا ضِياعهم أفلسوا وأصبحوا يعرفون بـ”النبلاء الحُفاة”. وبعد عشرات السنين، بدأ النبلاء يستحدثون طبقة “وظيفية وسيطة”، تتولى إدارة الضِّياع، وتمنح النبلاء فرصة الجمع بين الثروة والسلطة، وكانت هذه الطبقة من اليهود.

سامحني، يا زيلنسكي، أعرف أنك يهودي. ولست في خصومة مع اليهود ولا اليهودية، لكنني، في الوقت نفسه، أتمنى لك ألا تكون أنت في خصومة مع الحقيقة. … انتشرت هذه الطبقة الوسيطة التي بدأت في بولندا في بلاد أخرى، بينها أوكرانيا، كانت تباشر مهامّ عدّة، في مقدمتها جمع الضرائب. وكانوا يستخدمون، في جمعها، أكثر الطرق قسوة. ومع تَصاعُد نفوذ النبلاء وضعف نفوذ سلطة الملك، تزايد اعتماد الجماعات اليهودية على النبلاء، وانتقل مركزُهم إلى أوكرانيا. وفي القرن السابع عشر، أصبحوا الجماعة الوظيفية الوسيطة بين النبلاء وعبيد الأرض، وأصبحوا أداة النبلاء في ممارسة سلطتهم.

تأمّل، يا زيلنسكي، هذا هو نفسه دور إسرائيل “الوظيفي” في محاولة قمع “الشرق” لحساب الغرب. وتمامًا كما يفعل الغرب اليوم مع الشعب الفلسطيني “أصرّ النبلاء على حقّهم المطلق في إقرار الحياة والموت”. وكما أصبح جامع الضرائب اليهودي في الريف الأوكراني أداة “أسياده” في سحق الفقراء، أصبحت الآلة العسكرية الصهونية تعيد إنتاجه حرفيًا. وبسبب غياب “النبيل”، أصبحت السلطة المباشرة شبه المطلقة في يد اليهودي الذي كان يدير الضّيْعة، تسانده في ذلك قوة عسكرية، وبدأ القمع.

ولأن القمع لا يرتوي إلا بالدم، أصبح البعد العسكري يكبُر كل يوم. وهكذا هي الدولة الوظيفية المسمّاة إسرائيل. أصبحت هذه الطبقة تعتمد في بقائها على مزيدٍ من العزلة، وإسرائيل تتنفس من خلال رئة اسمها “الطرق الالتفافية”، وتعزل نفسها عن الجموع المقموعة في مدنٍ صغيرة يعيش فيها اليهود وأسرهم وأتباعهم في حماية قوّة عسكرية. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل امتد ليشمل تغيّر شكل المعابد اليهودية، لتظهر معابد تأخذ شكل قلاع تُوجَد في حوائطها كوّات تخرج منها فوهات البنادق والمدافع. ولأن الدفاع عن الحياة والكرامة والأرض أمرٌ فطري، فقد تعرض اليهود لانتفاضات عفوية، لا تختلف كثيرًا عن انتفاضات الفلسطينيين ضد إسرائيل. وعندما تمكّنتُ من إحراز انتصار في الحرب مع بولندا عام 1649، أبرمتُ معاهدةً تنصّ على منع الجماعات اليهودية من الاستيطان في أوكرانيا.

يا عزيزي زيلنسكي: تحتاج فكرة الاستعداد لاقتلاع شعب من أرضه إلى بنية نفسية وعقلية تنبُت في تربتها دائمًا خطيئة إدانة الضحايا. وقبل قرون، عندما حدَث لشعب أوكرانيا على يد جماعات يهودية أقلّ بكثير جدًا جدًا جدًا مما يحدُث للشعب الفلسطيني، قدتُ انتفاضةً شعبيةً كان من الطبيعي أن يكون معظم ضحاياها منهم، وتُحاول الجماعات اليهودية حتى اليوم إدانتي بتهمة “إبادة” يهود، وهو ما لم يحدُث. ومن تحصّنوا في مدن منعزلة وتسلّحوا ودمروا حياة الشعب الأوكراني وأفقروه يصرّون أنهم ضحايا. وأنت اليوم تدين الضحايا الفلسطينيين، في وقتٍ تحشد شعبَك للدفاع عن بلادك ضد احتلالٍ لا يكاد يختلف عن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. … لكن البندقية والطرق الالتفافية والمدن المحصّنة والانعزال لا يحقّق الأمن.

شكرًا زيلنسكي.

مقالات ذات صلة