قائم إلى الأبد.. حسين الرواشدة
سئل بندار الفارسي عن موضع الاعجاز من القرآن فقال: هذه مسألة فيها حيف على المعنى، وذلك انه شبيه بقولك: «ما موضع الانسان من الانسان، فليس في الانسان موضع من الانسان بل متى اشرت الى جملته فقد حققته، ودللت عليه» كذلك القرآن لشرفه لا يشار الى شيء منه الا وكان ذلك الشيء آية في نفسه، ومعجزة لمحاوله وهدى لقائله..
ويمكننا بعد اكثر من خمسة عشر قرنا ان نفهم ما ذهب اليه بندار وغيره من علماء المسلمين االذين نهضوا لقراءة القرآن وتمحيص نظمه واكتشاف اعجازه وفهم بيانه، فمع كل تأليف يرى صاحبه انه بزَّ سابقيه يطلع في مرحلة متأخرة تأليف يضيف الى ما سبقه ليظل التحدي قائما الى الابد، والمعجزة ماثلة ثابتة على مدى الزمان.
اسئلة كثيرة طرحها علماء الاعجاز على مهاد دراساتهم، هل الاعجاز ينحصر بالمضمون فقط ام في امور خارجة عنه لا تتعلق بمقدور البشر المخاطبين به، ولماذا تعذر على البشر الاتيان بمثله، وهل كان التحدي موجها الى العرب في زمن البعثة ام انه شامل للانسان على مدى الزمان؟ وماذا عن الاعجاز البلاغي والبياني والنفسي والاعجاز بالقيم والمثل والاحكام.. والاعجاز العلمي والطبي والعددي.. وهل صحيح ما قاله الخطابي بأن الناس اكثروا الكلام في هذا الباب قديما وحديثا وذهبوا فيه كل مذهب من القول.. «وما وجدناهم بعد صدروا عن ريّ، وذلك لتعذر معرفة وجه الاعجاز في القرآن ومعرفة الامر في الوقوف على كيفيته» ام انه كما اشار الجرجاني حين استعرض بلاغة القرآن قائلا: الالفاظ لا تتفاضل من حيث هي الفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وان الفضيلة في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها وما اشبه ذلك..
في كتاب الله العزيز نجد كل اشكال الاعجاز الى درجة يصعب على جمهور الدارسين الاحاطة ببعضها، لكننا – بالطبع – مدعوون الى قراءة القرآن ومعرفة اسراره، لا لاثبات المعجزة والنبوة التي دفعت الاقدمين الى الابحار فيه، وانما ايضا لانقاذ امتنا من وهدتها، واعادة الاعتبار لقرآنها كباعث لها على العلم والاكتشاف والابداع، والاهم، على العمل والصحوة واستشراف الدنيا وعمارتها.. لقد امضينا وقتا طويلا في دراسة القرآن، وبذلنا جهدا كبيرا في استنباط اعجازه، لكننا بحاجة – اليوم – الى ترجمة هذا الجهد على صعيد الممارسة، وتقديم النموذج الفعلي لهذا الاعجاز.. اعجاز الامة الذي ينطلق من اعجاز القرآن، واعجاز المسلمين الذين تربوا على هدى القرآن.. فهل نفعل ذلك؟