مونديال قطر… نقاط على حروف

محمود الريماوي

حرير-يتعلق هذا المقال بالحدث الرياضي الأكبر، وهو بطولة كأس العالم التي تقام لأول مرّة في بلد عربي وشرق أوسطي، دولة قطر، ابتداء من 20 نوفمبر/ تشرين الثاني ولأربعة أسابيع، والذي يضفي بعض الإشراق، ويهب قدراً من البهجة على صورة عالمنا التعس. .. ولا بأس ببضعة سطور على سبيل التقديم قبل الولوج إلى “لبّ الموضوع”.

ليس كاتب هذه الكلمات شغوفا برياضة كرة القدم، بيد أنه يُنظر باهتمام إلى المناسبات الكبيرة والكبرى لهذه الرياضة باعتبارها تمثّل مسابقة رفيعة المستوى، واحتفالاً بحيوية الجسد البشري ومرونته وطاقته على التحمّل وتقيّد صاحبه بقوانين اللعبة، والتزامه نحو رفاقه باللعب بروح الفريق، وبالروح الرياضية (إنكار الذات) تجاه الفريق الآخر.. المنافس لا الخصم. ورغم أن التلفاز في عصره الذهبي قد نمّى لدى الملايين من مشاهديه التعلّق بألعابٍ مثل المصارعة، إلا أن هوى الشعوب والمجتمعات والأفراد ظلّ يتّجه إلى كرة القدم، حتى باتت نشاطاً يجتمع البشر في أرجاء المعمورة على التعلق به، متجاوزين كل الفوارق بينهم، إذ يكاد هذا النشاط يخاطب أعمق الدوافع، وحتى الغرائز، البشرية، ابتداء من بقايا الذكريات الغائرة في اللاوعي الجمعي بمطاردة الفريسة ركضاً بحثاً عن الطعام، ومروراً بتنافس الأفراد والمجموعات بدنياً على القوت، على الكلأ والماء، وليس انتهاءً بالسعي المحموم إلى النجاح وبلوغ الهدف بأسرع وقت ممكن، وهو ما يميّز إيقاع الجانب السلوكي للأفراد في مدن عالمنا. ومع أن الرجال يتسيّدون هذه اللعبة التي تتطلب أداءً بدنياً شاقاً، إلا أن للنساء حظوظهن في كرة القدم النسائية الأقل ذيوعاً. علاوة على تفوقهن على نظرائهن الرجال في ألعابٍ كالتنس الأرضي والجمباز.

وإذ عمل التلفاز الحديث الرقمي على متابعة الرياضات الأخرى، من سباق الهجن إلى سباق السيارات الرياضية إلى ألعاب الجمباز وغيرها، إلا أن الشاشات، كبيرها وصغيرها، قد عمّمت، بالتحالف مع الوسائط التقنية الحديثة الناقلة، الشغف بمتابعة كرة القدم، لجمهور عريض يعزّ على الحصر. وأمام هذا الذيوع والانتشار للعبة وللفرجة عليها، فقد تسابقت الدول والمجتمعات على نيل قصب السبق فيها، باعتبارها تمثل قوةً ناعمةً تعكس خصائص الجدارة والتميز. وللمرء هنا أن يلحظ كيف انزاحت دول نامية وأقل تطوراً عن تصدّر اللعبة، مثل البرازيل والسنغال والأرجنتين، لمصلحة دول أوروبية وغيرها، وذلك قبل أن تعاود بعض هذه الدول تدارك ما فاتها واستعادة أمجادها الكروية، وهو ما يجعل من دعم المرافق الرياضية حقّاً للدول النامية، مثل حقوق أساسية أخرى. وفي هذا المعرض، كان لافتا أن القائمين على مونديال قطر، وضمن سياسة الدولة، قد قرّروا منح 170 ألف مقعد للمتفرّجين للدول النامية لتعزيز البنية التحتية الرياضية، علما أن الدولة المضيفة قد أنشأت سبعة ملاعب كبيرة، وبمواصفات مبهرة، إضافة إلى الملعب الوطني (ملعب خليفة)، وبسعة مقاعد فائقة، سيتم تخفيضها إلى حد كبير، بعد انتهاء المناسبة يوم 18 ديسمبر/ كانون الأول، وإهداء النسبة الأكبر من هذه المقاعد إلى دول نامية، في بادرة فريدة من نوعها، لعلها تفتح عهداً جديداً لدعم مُستحَقّ للمرافق الرياضية في هذه الدول.

يجدر التذكير هنا بأن خمس دول تنافست في العام 2010 على الفوز بنسخة 2022 لنهائيات كأس العالم، اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والولايات المتحدة وقطر، وقد وقع الاختيار على الدولة “الصغيرة” قطر، لا على إحدى الدول الأربع الكبيرة الأخرى، إذ كان التنافس يدور، في واقع الحال، بين ملفاتٍ تتقدّم بها الدول المترشّحة، وليس مجرّد طرح اسم الدولة. وكان من ضمن البنود الواردة في الملف القطري الالتزام بالتخلي عن 170 ألف كرسي في مختلف الملاعب التي تستضيف المباريات بعد انتهاء البطولة ومنحها إلى البلدان النامية. إضافة إلى التعهد بتنفيذ العديد من الجوانب الاقتصادية والرؤية البعيدة في تحقيق معايير الاستدامة في البيئة، من حيث الطاقة والمنشآت المواكبة للتطور. ويسترعي الانتباه أن الدولة المضيفة قد وسعت اهتمامها بهذه المناسبة بإقامة أو تحديث مرافق ثقافية وتعليمية وسياحية، حتى أنها شرعت بتشييد مدينة عصرية جديدة تتسع لـ 450 ألف نسمة، بمن فيهم الزائرون، وتضم أربع جُزر، ومنحتها اسم لوسيل. ومع أن الاسم ذو إيقاع فرنسي، إلا أنه يتعلق بأحد أنواع الزهور البرّية النادرة في هذا البلد ذي البيئة الصحراوية. وبهذه المناسبة، لعله من حقّ العمال الذين أشادوا “الستادات” الكبرى والبُنى التحتية المتصلة بها أن يتمتعوا بتكريم مناسب، وأن يحظوا بفرصة حضور بعض المباريات مجانا نظير جهدهم الجبّار سنوات.

ورغم أن 12 عاما قد مضت على نيل شرف تنظيم بطولة كأس العالم، إلا أن هذا العام (2022) بالذات قد شهد حملة على البلد المضيف، إلى درجة أن أحد المواقع الإخبارية الأوروبية المهمة (مونت كارلو الدولية) قال إنه لا يمر يوم إلا وتنتشر فيه الأخبار والتقارير المثيرة للجدل والمتعلقة بتنظيم قطر كأس العالم 2022. وفي مرّة أخرى، ورد نقلاً عن صحيفة بريطانية أنه لا يمر أسبوع إلا وتظهر فضيحة جديدة! ويتمّ في هذه الحالة إيراد واقعة عن ظروف حياة العمال تعود مثلاً إلى العام 2015. وبينما يخشى صحافيون، ولهم الحقّ قي ذلك، أن يتم حصرهم لمعاينة الجوانب الإيجابية، فإن للدولة المضيفة الحقّ أيضا في الحذر من التركيز المفرط على جوانب سلبية لا يخلو منها أي بلد، في وقتٍ يفد فيه المراسلون في المقام الأول لتغطية حدثٍ عالمي كبير. إنه لمن الصحيح أن دولاً متقدمة في عالمنا لا تخشى تصوير جوانب سلبية فيها، وهي الدول الغربية، غير أن دولا متقدّمة في آسيا مثلا لا تجيز ثقافتها المجتمعية للزائر تصوير مظاهر سلبية إلا في حدود دنيا، فالأمر لا يتعلق فقط بالقوانين والأنظمة السائدة، بل كذلك بالتقبّل الاجتماعي أو عدمه. مع ذلك، يأمل المرء ويثق بأن صدر القائمين على المناسبة في الدولة المضيفة سوف يتسع أمام مثل هذه الحالات إن حدثت، وعدم افتراض سوء النية دائما، فـ “بعض النقد مفيد”، على ما قال أمير البلاد، الشيخ تميم بن حمد، في افتتاح مجلس الشورى في الدوحة قبل أيام. ومن الطبيعي كذلك أن يشعر الصحافيون الوافدون بحرية الحركة، في بلدٍ يُعتبر موئلاً للإعلام العصري المتطوّر.

وقد جاء استقبال الدوحة وزيرة الداخلية الألمانية والمسؤولة عن الشؤون الرياضية، نانسي فايسر، قبل أيام، ليبرهن على سعة الصدر هذه، وعلى الثقة العالية بالذات، فقد سبق للوزيرة، قبل نحو أسبوع من زيارتها المقرّرة العاصمة القطرية، أن صرّحت، بنبرة استعلائية، بأنه “سيكون من الأفضل عدم منح حقّ استضافة البطولات لمثل هذه الدول”. وتميّز بين الردود عليها ما دوّنه وزير الخارجية الألماني السابق، زيغمار غابرييل، في تغريدة له على “تويتر”، السبت الماضي، بعنوان “الغطرسة الألمانية تجاه قطر”، قائلا إن “التقدّم لا يأتي بين ليلة وضحاها.. فقد استغرق من ألمانيا عقوداً حتى تصبح دولة ليبرالية.. والدتي كانت بحاجة إلى إذن زوجها للعمل”. وبالتأكيد، لم يكن الرجل يتحدّث عن واقعة تعود إلى قرون مضت. وقد خرجت المسؤولة الأوروبية في تصريحات لصحف ألمانية عقب زيارتها، بالقول إن “حزمة القوانين التي سنّتها قطر في السنوات الأخيرة جيدة للغاية”، وإن “نظرة إيجابية وثاقبة” تكونت لديها، وكشفت عن عزمها على القدوم مجدّداً إلى الدوحة لمتابعة مباريات لفريق بلادها في المونديال.

زارت نانسي فايسر الدوحة في زيارة رسمية، ويزور هذه العاصمة زوار من مختلف أنحاء العالم، كما حال ألمانيا ودول عديدة أخرى، وفي أدبيات زيارة أي بلد أن يحترم الزائر قوانين الدولة وأعراف المجتمع، وليس للزائر أن يضيق بذلك، وإلا لما كان قد حزم حقائبه للسفر إلى ذلك البلد، وهو ما ينطبق على مشجّعي “المونديال” في الدوحة، فللزائر المشجّع حقّ الأمان والاحترام وعدم الاستغلال، ولكن ليس لديه الحقّ بالسعي إلى فرض حقوق سائدة في بلده على البلد الذي يستقبله، فحتى الضحك بصوتٍ مرتفع غير مسموح به في الغرب مثلا، رغم أن هذا السلوك هو من قبيل نمط الحياة في دول ومجتمعات أخرى. حقّاً المناسبة دولية، ولا تتعلق بالبلد المضيف حصراً، غير أن من يقصدون مقر المنظمة الدولية الكبرى، الأمم المتحدة في نيويورك، يتقيّدون بالأنظمة الأميركية، حتى لو كانوا على مبعدة أمتار من نادي الأمم.

مقالات ذات صلة