هل يبقى النظام الدولي بعد حرب أوكرانيا كما قبلها؟

إبراهيم فريحات

حرير- يدور الحديث عن أن النظام الدولي بعد حرب أوكرانيا لن يكون كما كان قبلها، وأن تغيرات بنيوية ستطرأ عليه، وسيشهد صعود قوى دولية وتراجع أخرى، وسينحو باتجاه بنية جديدة متمثلة بتعدّد القطبية، تجعل من صناعة القرار على المستوى الدولي موزّعة بين أكثر من لاعب (power diffusion). وهنا أجادل بأن حرب أوكرانيا، على أهميتها وتأثيراتها على الساحة الدولية، إلا أنها لن تفتّ في عضد النظام الدولي، وسيبقى يسير بالوتيرة نفسها التي سبقت الحرب في أوكرانيا من التحولات، والناجمة عن متغيرات دولية أخرى كثيرة، حتى لو انتصرت روسيا في حرب أوكرانيا، وكذلك إذا انهزمت.

منطق المدافعين عن التحول في بنية النظام الدولي يقول إن نصر روسيا في أوكرانيا سيؤدي إلى تشكلات دولية جديدة، وتحديداً في آسيا من تحالف روسي صيني سياسي، قد يجتذب قوى أخرى تعمل بعكس تيار الولايات المتحدة، مثل إيران، وكذلك تكتلات اقتصادية جديدة وتعزيز تحالفات قائمة، وربما إيجاد بدائل للدولار للتداول في السوق العالمية، وذلك كله مصحوب بتراجع الولايات المتحدة على الساحة الدولية، وتركها فراغا كما في الشرق الأوسط تقوم هذه القوى بملئه.

أولاً، لنعترف بأن حرب أوكرانيا أحدثت تأثيرات على الساحة الدولية (وليس تركيبة النظام الدولي)، مثل الأزمة الغذائية وتنشيط بعض التحالفات الإقليمية، إلا أن هذه التأثيرات في جوهرها آنية، وحتى إذا استمرّت لن تحدث تأثيراً في بنية النظام الدولي، كأن يتحول إلى ثنائي أو متعدد الأقطاب. ربما لن نختلف كثيراً مع المدافعين عن التحولات في حال هزيمة روسيا، كون ذلك سيؤدّي إلى تراجعها في العدد من المواقع على الساحة الدولية، مثل سورية وليبيا، وسيضعف من إمكانية تحالفها مع الصين، لتشكيل قطب جديد منافس في النظام الدولي. ولكن السؤال المهم: إذا انتصرت، هل سيمكّنها ذلك من التمدّد على الساحة الدولية، لتحول النظام الدولي إلى متعدّد الأقطاب، كما يصرح وزير الخارجية الروسي، لافروف، في مناسبات عديدة؟ وهنا الإجابة لا.

لم يكن متوقعاً من الولايات المتحدة والغرب التصعيد في أوكرانيا حسبما تنصّ عليه أعراف (وليس قوانين) الصراع بين القوى الكبرى، والتي حكمت المعادلة الدولية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لسبب بسيط، أن أوكرانيا تقع في منطقة الأمن القومي الروسي، وأن انتصار روسيا في الحرب، إن حدث، سيعني فقط العودة إلى التمسّك بهذه الأعراف، وليس تمدّداً إضافياً على الساحة الدولية، يساهم في بناء نظام دولي متعدّد الأقطاب. القوى الكبرى لا تتحدّى بعضها،  خصوصاً في المجال العسكري، في المناطق التي تعرّف أنها أمن قومي للخصم، وهو ما حدث بالضبط في أزمة صواريخ كوبا عام 1962، حتى حينما كان الاتحاد السوفييتي في أوج قوته، عندها استعدّ كينيدي لإشعال حرب نووية، على أن يسمح لصواريخ السوفييت أن تهدّد العاصمة واشنطن. المعادلة هذه هي التي حكمت أيضاً الأزمات في جورجيا وأرمينيا وأذربيجان والشيشان، وكلها أزماتٌ تقع ضمن منطقة الأمن القومي الروسي، حيث تركت الإدارات الأميركية موسكو تقرّر في مصير هذه الصراعات، حتى عندما تحرّكت الدبابات الروسية بعد حسم مسألة أبخازيا متجهة إلى العاصمة تبليسي، ذهب الرئيس الفرنسي، ساركوزي، راجياً نظيره الروسي، بوتين، أن لا يفعل ذلك، وجرى حل الأمر بالتراضي، إلا أن هذه المعادلة تغيرت في أوكرانيا!

على العكس من ذلك، أجرى حلف الناتو مناورات عسكرية في أوكرانيا قبل الحرب، ودعم كييف وزودها بأسلحة متطوّرة، وانتهى الأمر بالعمل على ضمّها للحلف، ما يعني نشر صواريخ له يصل مداها إلى موسكو. فإذا ما كسبت روسيا الحرب ومنعت انضمام أوكرانيا لـ”الناتو” والوجود العسكري الأميركي فيها، فذلك لن يضيف لها أكثر من المحافظة على أعراف النظام الدولي السابقة، فلا يعطيها أي نفوذ إضافي في مناطق خارج أمنها القومي. أي لن يمنحها ذلك نفوذا إضافياً في ساحات دولية أخرى، مثل آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية أو الشرق الأوسط، ناهيك عن نفوذ في مناطق تعتبر أمنا قوميا للولايات المتحدة أو مناطق أخرى توليها الولايات المتحدة أهمية خاصة في سياستها الخارجية، مثل مضيق تايوان وجنوب شرق آسيا وأجزاء من الشرق الأوسط. سيبقى التمدّد الروسي محصوراً، كما كان عليه الحال قبل حرب أوكرانيا، في مناطق تخليها الولايات المتحدة طوعاً كما في سورية، وهذا لا يعني، بأي شكل، تحول النظام الدولي إلى ثنائي القطبية.

ما يؤثر في طبيعة النظام الدولي، والذي يجب مراقبته، هو الوضع الداخلي للولايات المتحدة نفسها، وليس حرب أوكرانيا. وبشكل خاص عاملان أساسيان: تماسك (أو تضعضع) الوضع الداخلي في الولايات المتحدة نفسها، مثل العلاقات بين المعسكرين، الليبرالي والمحافظ، ومدى استقرارهما أو توترهما، ونضرب مثلاً هنا التوتر الذي حصل في فترة حكم دونالد ترامب والهجوم المحافظ على مبنى الكابيتول في يناير/ كانون الثاني 2021، والذي يهدّد حياة النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة. استقرار الوضع الداخلي سيساعد الإدارة الأميركية على تنشيط سياستها الخارجية باتجاه ترميم بنى النظام الدولي، وإعادة إحياء التحالفات الإقليمية التي تقود النظام الدولي من خلالها، حيث نجحت واشنطن بإعادة الحياة الى العلاقة مع أوروبا، وأعادت تفعيل دور “الناتو”، وصاغت أحلافا جديدة، مثل الإيكوس مع بريطانيا وأستراليا، وأعادت إحياء اتفاقيات مع الهند والفيليبين وغيرها لمحاصرة الصين. التوتر الداخلي في الولايات المتحدة إذا تفاقم هو الذي سيجبر واشنطن على الانكفاء إلى حدودها الداخلية، واخلاء مناطق نفوذ لها على الأسحة الدولية، ما يسمح لروسيا والصين بتمدّد أكبر يعمل، مع الوقت، على التحوّل فعلاً إلى نظام دولي متعدّد الأقطاب.

يتمثل العامل الثاني في نتيجة الانتخابات الأميركية عام 2024، والتي قد تعيد الجمهوريين إلى الحكم في الولايات المتحدة. تحديداً الترامبية السياسية إن سيطرت على سياسة الحزب الجمهوري ستزيد من حالة التوتر الداخلي في الولايات المتحدة، وأكثر من ذلك ستُخلي طوعاً مناطق نفوذ لها في العالم، بسبب السياسة “الواقعية الفجّة” التي تنتهجها في التعامل مع الحلفاء وازدرائها المعلن القانون الدولي والمنظمات الدولية، وحتى النظام الدولي نفسه، فقد رأينا كيف بدأت الترامبية السياسية بتهميش حلفائها وأصبحت تطالبهم بدفع المال مقابل الحماية الأمنية التي تقدّمها لهم، مثل اليابان وجنوب كوريا والسعودية وحتى أوروبا وغيرها، فقد عمل ترامب على تقليل الوجود العسكري الأميركي في ألمانيا، وطالبها بدفع مخصصات أكبر لحلف الناتو. أربع سنوات إضافية من الترامبية السياسية (وليس بالضروري سياسة الحزب الجمهوري التقليدية) ستعمل على تقويض أسس النظام الدولي، وتغير في بناه، ولن يهمها كثيراً من سيملأ الفراغ بعد انسحابها مما تراه عبئاً مالياً عليها. وعندها فقط، ستقدّم نظاما دوليا متعدّد الأقطاب على طبق من فضة لموسكو وبكين، وليس نتيجة الحرب في أوكرانيا كما يرى بعضهم أنها ستحول تركيبة النظام الدولي باتجاه التعدّد.

مقالات ذات صلة