في إنتاج الجيل الجديد.. محمد أبو رمان
من الضروري أن تتأسس عملية تطوير مناهج التربية والتعليم الجارية حالياً في الأردن على إدراك التحوّل الكبير في مفهوم التعليم نفسه، وفي الربط بين المتطلبات الاجتماعية والعملية ومسار العملية التعليمية ومخرجاتها.
في هذا السياق يتم التركيز على جوانب متعددة في الخطاب الرسمي، مثل تطوير التعليم المهني، المواءمة بين مخرجات التعليم وسوق العمل، وهي أمور مهمة، لكنني أزعم أنّ هنالك ما هو أهم من ذلك، وأقصد هنا إعادة التفكير في المداخل والمقتربات المنهجية والمفاهيم الرئيسة التي تؤسس فلسفة التعليم ذاتها، وهنا أدعو إلى الانتباه إلى هذه المداخل:
المدخل الأخلاقي، أظهرت التطورات المتتالية والتحولات الاجتماعية والثقافية أنّ هنالك تضعضعاً كبيراً في المنظومة القيمية وحتى في السلطة الأخلاقية للدولة. من هنا فمن المفترض أن نضع الموضوع القيمي في أولوية اهتمامنا ونحن نصوغ هذه المناهج ونقدّم الكتب المدرسية، من خلال كتب التربية الإسلامية إعلاء شأن القيم والأخلاق، والكتب الأخرى، مثل التربية الاجتماعية، وحتى مواضيع اللغة العربية والكتب المختلفة.
مدخل المواطنة والديمقراطية، بما يتضمنه ذلك من مفاهيم سيادة القانون، وصون حقوق الإنسان، والحق في الاختلاف والتعددية، وتقبل الآخر، والابتعاد عن التجريح والاتهام، وهو أمر يمكن استدخاله في كتب التربية الإسلامية والوطنية والعلوم الاجتماعية، واللغة العربية،..
المدخل الواقعي والمهني، ولا يقتصر على التعليم المهني، فقط، بل من الضروري أن يتم ربط المعرفة العلمية والتعليم بالنتائج الواقعية، وأزعم أنّ هنالك مشكلة كبيرة في مناهجنا وكتبنا المدرسية السابقة هو إما أنّها نحت باتجاه التجريد، بخاصة في العلوم الفيزيائية والرياضيات، فلم يربط الطالب بين ما يدرسه أو ما يتعلّمه، أو أنّها خلقت “مثالية مفبركة” غير صحيحة عن ذاتنا وتاريخنا وثقافتنا، وابتعدت عن النزعة النقدية والواقعية، وربما هذه المثالية المفرطة هي أحد الروافد للثقافة الإقصائية ورفض الآخر والتمسك بالرأي بوصفه حقّاً مطلقاً.
المدخل الواقعي والمهني من المفترض أن يكون هو بمثابة الفلسفة التي تستغرق الدروس الرئيسة والتفاصيل في المناهج والكتب المدرسية، فهي ليست فقط فرعاً أو اتجاهاً دراسياً، في مقابل الفروع العلمية الأخرى، كما استقر في ثقافة الناس (أي الفروع العلمية والأدبية بوصفها فروعاً علمية والصناعية والتجارية والزراعية وغيرها بوصفها فروعاً مهنية)، فالمطلوب أن تكون كل المناهج الدراسية والتعليمية مرتبطة بالجوانب الواقعية والمهنية والعملية.
مدخل ثقافة الحياة اليومية، وهذه أيضاً مرتبطة جزئياً بالنقطة السابقة، لكنّها تستحق أن تكون ضمن دائرة أولوياتنا واهتماماتنا؛ إذ أصبحت على درجة كبيرة من الأهمية اليوم، بمعنى يتعلم الطالب بالتدريج وبصورة مرتبطة بالمرحلة العمرية كيف يتعامل مع حياته اليومية والتحديات الواقعية التي تواجهه، فليس من المنطقي أن تتناول الكتب المدرسية أسماء ملوك الممالك القديمة في العالم ولا تغرس في الطالب أهمية أن ينظّف أسنانه، ولا تعلّمه كيف يقوم بالإسعافات الأولية، ولا تعطيه فكرة عملية عن النظام الغذائي والصحي المطلوب، ولا تخلق لديه القدرة على ربط العلوم والمعارف ببعضها..الخ.
فلسفة التربية والتعليم قامت خلال العقود الماضية لدينا، عملياً، على إنتاج الطالب الذي يمتلك المعارف والثقافة العميقة، في مختلف العلوم، لذلك وجدنا الكتب التي تركز على الكمّ، وكان ذلك ملائماً لمرحلة مضت، أما اليوم مع جيل الآيفون والتطبيقات الذكية وGoogle، ومع أزمات البطالة وفي ظل تحديات التطرف والإقصاء والفاشية، فإنّ علينا إعادة النظر في هذه الفلسفة ذاتها.