حميدتي من المليشيا إلى المتاجرة بالثورة والتناقضات

عصام شعبان

حرير- ضمن حرب مأساوية في السودان، بين طرفي السلطة، الجيش وقوات الدعم السريع، ينتج كل جانب سرديته، ويحاول جذب الأطراف إليه، بما فيها من خطابات عدائية متواترة، وحرب نفسية، ما يهدّد بالانزلاق نحو حربٍ أهلية. يأتي هذا المشهد بعد تعثر المرحلة الانتقالية، وتفتت قوى الثورة، وصولا إلى محطة انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول، ثم المواجهة بين طرفي السلطة، رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان ونائبه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي). ولا يمنع هذا كله النظر إلى التباينات والتفاصيل، وأيضا التفريق بين خطابين، قيادة الجيش وأخرى تمثل مليشيا كان يفترض دمجها في القوات النظامية، حسب الاتفاق الإطاري الذي تفجّرت معه الأوضاع، وطبقا لمطالب سابقة بحل كل التنظيمات المسلحة.

يصرّح مستشار قوات الدعم السريع يوسف عزّت، لقناة إسرائيلية، بأن ما تتعرّض له صفوف جبهته من هجوم للجيش يشابه ما تعرضت له دولة الاحتلال آلاف المرّات من الجماعات الإرهابية مثل حركة حماس، تصريح حتى لو تمّت معالجته أو التنصل منه مستقبلا لن يهدم السردية التي يحاول من خلالها محمد دقلو تجييش الأطراف المحلية والدولية وإشراكها في دوائر الصراع، مستخدما سردية الحرب على الإرهاب ومتحصّنا بإسرائيل بوابة عبور، وكاشفا أيضا مع من يصطفّ بهذا الخطاب، الذي يدّعي من خلاله محاربته إسلاميين متطرّفين، يستولون على الحكم ويرفضون انتقالا سلميا للسلطة، ويصفهم بامتداد للنظام البائد، يستدعي إسرائيل تحديدا مستخدما رواية الحرب على الإرهاب، بينما تسعى تل أبيب إلى الوساطة، واستضافة الطرفين للبحث عن حلّ. ليس ذلك وحسب، وإنما مجمل خطاب دقلو متاجرة بالمأساة، مصدرها تكوينه الأول ونشأته، مستخدما الحيل واللعب على الحبال، والإسقاط النفسي والسياسي، دفعا عن نفسه ضمن دعاية عن رجل السلام والتسامح والتعايش والنزاهة، لكن ذلك لا يلغي تاريخه المعاكس.

ويبدو حميدتي في حربه التي يراها مقدّسة من أجل الشعب السوداني حاميا ومدافعا عن الثورة. يقول إن للديمقراطية ثمنا، ويعتذر للشعب عن التداعيات، وكأنه كادر في جبهة ثورية ديمقراطية تخوض حرب تحرير شعبية، ولم يكن جزءا من نظام عمر البشير الاستبدادي، وتدرّب على يد قياداته التي لم تشحن أقرانه خلال خدمتهم النظام وحسب بالمال والسلاح، وإنما كانت مقولات الجهاد أرضية لممارسة القتل والاغتصاب والنهب خلال الحرب في جهات السودان، دارفور خصوصا، كانت تُدار بمنطق الجهاد، ضد أعداء الدين والوطن والعروبة، المدعومين من إسرائيل في بعض الروايات، وتخلف بهذا المنطق أسرى حرب وسبايا، وكانت أسوأ مأساة إنسانية يمكن أن تحدُث باسم العروبة والإسلام والوطنية. اليوم يستعين قائدها بسردياتٍ تمثل توليفة من خطابات الصهيونية والثورة المضادّة والحرب على الإرهاب، ذلك ليس منفصلا عن تاريخٍ من التلاعب والأدوار المتبادلة.

ووظفت قوات الدعم السريع والأجهزة الأمنية كل أشكال العنصرية، وهي تواجه حركاتٍ مسلّحة، وارتكبت جرائم وثقتها عشرات التقارير الدولية، بما فيها حرق قرى بأكملها، ما زالت هناك شواهد على الجرائم، عقدين مرّا ومعسكرات النزوح مليئة بضحايا العنف، والمجرمون بلا محاسبة. وخلال القتال الحالي، ربما يدخل ملايين آخرون في المأساة نفسها (نازحين ولاجئين). وقد تجاوز عدد النازحين في السودان 3.7 ملايين حتى سبتمبر/ أيلول 2022 (حسب بيانات مفوّضية اللاجئين). هذا إضافة إلى وتيرة العنف بعد ثورة ديسمبر/ كانون الأول، وإن بدرجةٍ أقل، اختلط فيها السياسي والقبلي وتوظف مظالم الجهات والولايات شرقا وغربا، وتخلّف بين تداعياتها موجات نزوح ونقص موارد وجوع في بلدٍ يصنف ضمن بؤر ساخنة لانعدام الأمن الغذائي، ولعبت الصراعات السياسية خصوصا في المرحلة الانتقالية دورا مركزيا في عنفٍ قبليٍّ، ووظفت فيها الإدارات الأهلية. وكان “الدعم السريع” حاضرا كما كان سابقا مع مواجهات نظام الإنقاذ مع الحركات المسلحة. وتمكّن حمدان دقلو أن يجد له موقعا بجانب السلطة، تحوّل من تجارة الإبل وحماية مصالحه والقوافل التجارية إلى تجارة الدم مع مجموعات الجنجويد، وصولا إلى مرحلة الاعتراف، وتأسيس قوات الدعم السريع وتبعيتها لجهاز الأمن، ثم البشير، القائد الأعلى للجيش، ليكون حميدتي جزءا من القلب الصلب للسلطة، تنفيذ مهام في الولايات، وتأمين الحدود، ومنها ينتقل إلى أدوار سياسية، وظّفت المركز الأمني الذي استحوذ عليه في نظام سلطوي متخلّف، أصبح أحد ركائزه في الخرطوم، يدافع عنه بمشاركة أجهزة الامن. وضمن الجرائم مواجهة انتفاضة سبتمبر/ أيلول 2013 في العاصمة والمدن الرئيسية، والتى خلفت مئات الضحايا، مصابين وقتلى، من دون حساب أو جبر للضرر كما جرائم سابقة، في غياب محاسبةٍ تسمح للمجرمين بالبقاء وأيضا حيازة عوامل قوة وسطوة وتهديد.

سعى البشير، كما نظم عربية سلطوية، إلى تأمين نظامه بقوات تتبعه، وفرق خاصة موازية للقوات النظامية ومتقاطعة معها أحيانا، ما أحدث تنافسا وتناقضات بين قوتين عسكريتين، الجيش وقوات الدعم السريع، وظلت المعادلة قائمة. بدا دقلو مع ثورة ديسمبر طامحا في السلطة، شريكا فعليا للبرهان، ثم نائب رئيس مجلس السيادة الحاكم، وتعمّقت علاقاته الإقليمية والدولية، بما يتجاوز تاجر ذهب أو حراسة الحدود لمنع الهجرة غير الشرعية يكتسب منها موردا لقواته ونفوذ لدى الاتحاد الأوروبي، غير حيازة وضعية سياسية، موظّفا كل التناقضات.

ساهم في فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم في يونيو/ حزيران 2019، وأفلت من الحساب مع أعضاء مجلس السيادة، وقنّن وضع “الدعم السريع” ومنحه ذلك مركزا ساسيا جديدا، ليمارس دعاية مضلّلة، مدّعيا أنه شريك للثورة وأحد أركانها. دافعت قوى سياسية عنه، شخوص بارزة، في انتهازيةٍ رغم وضوح الصورة. في هذه اللحظة، لم يعد حميدتي الشاب الذي يقود مجموعة من المسلحين يأمن طرق تجارة القماش أو الإبل، لكنه يطمح إلى حكم البلاد، ضامن مصالح قوى سياسة وقوى إقليمية أيضا.

بدا مع الاتفاق الإطاري (ديسمبر/ كانون الأول 2022)، متحمّسا لتسليم السلطة، بل وسبق ذلك باعتذار عن المشاركة في انقلاب 25 أكتوبر. لكنه مع السير في تطبيق الاتفاق، تحفّظ على خطط الإصلاح الأمني، بما يتضمّنه من دمج قوات الدعم السريع في الجيش خلال عامين، أي خسارة المرتكز الذي بلور وضعه السياسي، ومعها بدأت حملة الدعاية المضللة، وهو ذاته النهج الذي استخدمه في المرحلة الانتقالية، مع مختلف الأطراف السياسية بغرض تفتيتها، مستخدما خطاباتٍ متناقضة أحيانا، ثم استكمل التحضير لانقلاب 25 أكتوبر، جمع شتات الرافضين حكومة عبد الله حمدوك، حركات مسلحة كان يقاتلها سابقا، وقوى اجتماعية تقليدية، تعاني مظالم حقيقية.

ليست حالة السودان، ومع مراعاة جوانب الاختلاف، بعيدةً عن سياقاتٍ عربيةٍ حكمت فيها نظم سلطوية، أنتجت حروبا أهلية، ومارست خلالها جيوشٌ ومليشيات رديفة للسلطة، أشكال العنف السياسي، تستند السلطوية عربيا إلى الطائفة والعرق والجهة للتغلب، أو تتّخذ شكلا أيديولوجيا، كما حزب البعث في سورية والعراق، أو نموذجا هجينا وأقل تنظيما كما ليبيا. وفي النهاية، ترسّخ النظم التي تحكم بأدوات العنف نموذج حكم هشّ وتُضعف المجتمع، وتُنتج في الأغلب صراعاتٍ واقتتالا. وربما السودان الصورة الأوضح لتداخل الصراع المبني على العصبة والجهة والطائفة والقبيلة كغطاء للتغلب واستدامة مجموعات المصالح، بما يسمح بالتدخّل الخارجي، لكن أصل المأساة يبقى في الدخل، بخلاف تحليلات كثيرة تركّز على العوامل الخارجية في تحليل الصراعات والثورات والتفاعلات.

تجيّش دقلو ومخططه العسكري الذي بدأ في منتصف إبريل/ نيسان بمواجهات مع الجيش سبقها بتحالفاتٍ سياسية، وكانت الصورة حاضرةً، محاولات السيطرة على مراكز الحكم والمطارات والموانئ، مثل انقلابٍ على انقلابٍ، لكن ليس ثورة، أو دفاعا عن مخطّط انتقال سلمي للسلطة، يوقف الفوضى، لأنه ببساطة أنتج الاقتتال. وربما كان قائد “الدعم السريع” ينتظر، وهو يخاطب قوى سياسية معارضة للجيش والإسلاميين، أن تظهر تأييدا شعبيا له، ليؤمن موقعه إن لم يكن يريد الحكم منفردا، متصوّرا حسم المعركة في ساعات، بما يحوزه من قوات تتجاوز مائة ألف عنصر، وتنسيق قديم بين قوات الجيش والدعم السريع، مكّناه ببساطة من الوجود في الولايات والعاصمة، وتموضع في المواقع المهمة.

يقدّم حميدتي نفسه منقذا وبطلا للديمقراطية، في صراعاتٍ معقدة، وهو الذي لا يحوز مؤهلات للحكم، لكنه قادر على توظيف التناقضات والعجز السياسي والموارد والسلاح، وهو، كما منقذين آخرين، يوظفون سردياتٍ تمنحهم الشرعية، يتحوّلون فيها إلى أبطال. ورغم أنه رديف النظام وشريك لمن يهاجمه اليوم، ومارس كلاهما الجرائم، يستمر في التقلب والمتاجرة، من ادّعاء شراكة في الثورة، ثم الإعداد لانقلاب يعصِف بالمرحلة الانتقالية، ليعتذر عنه لاحقا، ويعلن حرصه للوصول إلى محطّة حكمٍ مدني، يوقف الفوضى، فيشعل حربا. وخلال ذلك، يستميل المجتمع الدولي وإسرائيل وحلف المطبّعين عربيا، في تقاطعه مع الثورة المضادّة، بينما يخطب ودّ مكونات الثورة والقوى السياسية في مواجهة البرهان.

يصلح حميدتي، ضمن نماذج عدّة، دراسة حالة، من التحوّل والتبدّل المدفوعة بطموح شخصي لحيازة السلطة، مستخدما تكتيكاتٍ سياسيةً متغيّرة، لا تنفصل عن حرب العصابات التي خاضها، ولا منطق التجارة بكل شيء، وحاز كل هذه الإمكانات في توازناتٍ من الضعف والانتهازية، تجعله يتولّى مهامّ لا يمكن تصوّرها، واليوم يطمح إلى الحكم، في مأساة حقيقية وفي بلد عربي يتّصف أهله بالوعي والثقافة إلى حد كبير.

يضيق الناس بالحرب بين ورثة الحكم المتصارعين. وتحت وقع القصف والرصاص، تتراجع السياسة، يصمت الشارع ويلهث الناس بحثا عن الأمان، يحاول أفراد المجتمع النجاة، توفير الاحتياجات الضرورية، بعد صدمة الحرب التي تعرّضت لها الخرطوم أول مرّة بهذه الكيفية، ربما سيشرع الناس في مبادراتٍ متنوعةٍ تبدأ بتدبير شؤون حياتهم أولا. وربما أمام المأزق، تقول قوى اجتماعية وسياسية كلمتها، وتدعو وتحشد قواها لوقف الحرب كما تعودنا منها في أحلك الظروف. وفي النهاية، المجتمع مجبر للبحث عن حلول، رغم نقص في الإمدادات والطاقة وتردّي الأوضاع الصحية، لكنها الحرب أسوأ ما يمكن أن تصادفه البشرية.

مقالات ذات صلة