ملحمة الإنقاذ والإغاثة في الشمال السوري

محمود الريماوي

حرير- شهدت كارثة الزلازل في تركيا وسورية ما لا يُحصى من وقائع أليمة عن عائلاتٍ قضت بكاملها، عن عائلاتٍ فقدت اطفالها، وعن أطفالٍ فقدوا آباءهم وأمهاتهم، وعن مصابين بإصاباتٍ بليغة، وعن فقدان أرزاق وممتلكات ووثائق شخصية لبشرٍ كافحوا طوال حياتهم، وفقدوا فجأة، وفي ساعة الهول، كل شيء من جنى العمر.

وإلى جانب الخسائر في الأرواح، والجراح في الأجساد المنهكة، فقد أيقظت الكارثة الحسّ الإنساني الجماعي من غفوته، إذ تسابقت الدول والهيئات لتقديم يد العون والإنقاذ، وهو ما عرفته على الخصوص تركيا، كما جرى تجاوز الخلافات السياسية، مثل ما وقع من طرف اليونان وأرمينيا نحو أنقرة. ومن المفارقة أن سجل الأمم المتحدة يشهد على أنها كانت الطرف المبادر في التعامل مع الأزمات الإنسانية، لكنها تعثرت هذه المرّة في الاستجابة السريعة للأزمة في الجانب السوري، وبخاصة تجاه شمال البلاد الذي يعاني، في الأصل، من ظروف العسر الشديد، ويضم أعدادا كبيرة من النازحين من داخل البلاد، فجاء الزلزال لكي يُضاعف معاناتهم إلى حد كبير، وكي يهدم ما بناه هؤلاء النازحون بعرق الجبين خلال السنوات القليلة الماضية. وقد بقيت مناطق شمال غربي سورية من دون أية مساعدات حتى اليوم الخامس، وذلك مع وصول مساعدات ضئيلة مُجدْولة قبل وقوع الكارثة، علما أن جُلّ نتائج الكارثة التي أحاقت بالسوريين قد تركّزت، في المقام الأول، في تلك المناطق في ريف حلب وريف إدلب. وهو ما حمل مسؤولي الأمم المتحدة على الاعتراف بالتقصير الفادح والبطء المميت من المنظمة الدولية.

ووسط هذا الخذلان الدولي الذي جرى البدء باستدراكه في اليوم السادس وما تلاه، فقد ظهر في تلك المناطق الدور البطولي الذي أدّته منظمة الخوذ البيضاء للدفاع المدني، وهي التي تأسست في ظروف الصراع المحتدم في العام 2013، مع تخلّي منظمات الإغاثة عن دورها، نظرا إلى بلوغ العنف مراحل قصوى، وهي تعتمد في عملها على المتطوّعين بصفة أساسية، مع عدد أقل من المتفرّغين للعمل الإغاثي ممن تلقوا دورات تدريبية وباتوا من المحترفين في عملهم، وقد أنشأت، في بداية عملها، نحو مائة مركز في ثماني محافظات سورية، قبل أن تحظر السلطات عملها، ما جعل عملها يتركّز منذ سنوات في مناطق المعارضة. وقد بادرت هذه المنظمة، منذ الساعة الأولى لوقوع الزلزال، بمباشرة عملها في إنقاذ الضحايا، رغم أن “الخوذ البيضاء” لا تملك خبرة سابقة في التعامل مع آثار الزلازل، ولا تملك المعدّات اللازمة لأداء هذه المهمّة الدقيقة. ورغم أن حجم الكارثة كان هائلاً مع تقوّض مئات البنايات والبيوت على رؤوس ساكنيها النيام، وعلى مساحة شاسعة من مناطق الشمال.. رغم ذلك، نجح الدفاع المدني السوري في إنقاذ مئات، وعمل بهمّةٍ جسورةٍ في أجواء من البرد القارس ليلا ونهارا وبغير توقف. وقد رصدت محطات تلفزيونية بارزة، مثل الجزيرة والعربي والعربية والحدث وسوريا وأورينت، ومنصّات التواصل، وقائع الأداء الملحمي لأبطال العمل الإنساني للخوذ البيضاء على مدار الساعة، مع اجتذاب مزيد من المتطوعين للعمل معها وتأمين وصول الضحايا أحياء ومصابين وراحلين إلى المراكز الصحية أو ما بقي منها.

وتحظى هذه المنظمة الإغاثية التي تلتزم بالبروتوكولات الدولية ذات العلاقة بتقدير دولي واسع، نظرا إلى ما تؤدّيه من دور مشهود في سدّ الفراغ، إذ لعبت، على سبيل المثال، دورا مشهودا في التعامل مع آثار جائحة كورونا، وهذه بدورها جائحة مستجدّة في نوعيتها وفي مخاطرها. وقد نالت “الخوذ البيضاء” جوائز وتكريمات عديدة لما تؤدّيه من أدوار تتجاوز القيام بأعمال الدفاع المدني إلى أداء دور هيئة إغاثة متعدّدة المهام، وهو ما تجلّى في المحنة الحالية. وكان يمكن أن تحقق نتائج أفضل، وتنقذ مزيدا من الأرواح، لو أنها حظيت بدعم الأمم المتحدة في الأسبوع الأول، على صعيد تقديم المعدّات الثقيلة وبقية المعدّات والأجهزة الدقيقة الخاصة بالتعامل مع انهيار المنازل، أو لو ساندتها فرق إغاثة محترفة في الوقت المناسب والذهبي الذي يمكن معه إنقاذ أكبر عدد ممكن من الضحايا تحت الأنقاض. .. وسوف تحتاج هذه المنظمة في الفترة الحالية إلى دعمٍ بالمعدّات لرفع الأنقاض التي تضم جثامين الضحايا، وهو عمل دقيق وحسّاس.

وإلى جانب “الخوذ البيضاء”، شهدت هذه الأيام العصيبة نشاطا لفريق شبابي يُعرف بفريق مُلهَم التطوعي، ويضم شبانا جامعيين، ومع أن نشوء هذا الفريق يعود إلى العام 2012، في ظل احتدام الصراع الذي دفع السوريون وما زالوا ثمنا باهظا له، إلا أن تحرّكه السريع في هذه الظروف أثار الانتباه إليه، وذلك لما تمتّع به من نشاط جم، ومن روح المبادرة، رغم أن حجم المأساة كان فوق التصوّر، ورغم الشعور، في الساعات الأولى للكارثة، بأن القدر قد ضرب ضربته، وقد لا يكون هناك الكثير مما يمكن فعله أمام حجم الدمار الهائل، إلا أن هذا الفريق الشبابي السوري لم يتوان عن الاستجابة للتحدّي الجسيم باطلاق مبادرة لإعادة بناء ما هدمه الزلزال، لتوفير ألفي بيت لمن فقدوا منازلهم أو ترميم البيوت القابلة للإصلاح، مستفيدا من تجربةٍ سابقةٍ في بنائه ألف مسكن للمشرّدين والنازحين، مع توفر مجموعة من المهندسين في صفوفه، من بينهم رئيس الفريق عاطف نعنوع. وإذ يحظى فريق ملهم بترخيص هيئة تطوعية من دول مثل السويد وكندا وألمانيا وتركيا والولايات المتحدة، وبمتابعة منتظمة لإيراداته وأوجه إنفاقه، فقد لقيت حملته إقبالا كبيرا على عمليات التبرّع من سوريين في الشتات ومن أفراد عرب، وأمكن له جمع قرابة 11 مليون دولار حتى مساء الخميس الماضي، 16 فبراير/ شباط الجاري. وقد أطلق الفريق حملته على قناة يوتيوب وفيسبوك وإنستغرام، مُشهداً متابعيه أنه سيقدّم بيوتا للمشرّدين بالدرجة الأولى والأساسية، وأنه قد يسدّ الثغرات والنقص في احتياجات المراكز الصحية والاجتماعية إذا دعت الحاجة لذلك، ولا شك في أنها تدعو إلى ذلك.

مع تجاوز الجانب النحوي باستخدام كلمة بيضاء للخُوذ، بدلاً من الجمع بِيض، فإن منظمة الخوذ البيضاء وفريق مُلهَم يمثلان نموذجا مضيئا للمبادرات الأهلية والمجتمعية القائمة على التطوّع وعلى الإيمان بأنه يمكن دائما القيام بما يتعيّن القيام به لمواجهة الكوارث والمآسي. وهاتان المنظمتان معا تنقلان مفهوم منظمات المجتمع المدني خطوات إلى الأمام، تتعدّى عمليات التثقيف ونشر الوعي وأداء مهام إعلامية، إذ اندفعتا إلى القيام بإنجازات ملموسة في مجالات حيوية، مثل الإغاثة والصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية والإسكان، بما يسدّ النقص الفادح الذي تتركه مؤسسات حكومية مولجة بالقيام بمثل هذه الوظائف والمهام، وخصوصا في ظروف الاحتراب الذي شهدته سورية وما رافقها من عمليات استقطاب وإقصاء لمناطق وتشريد شرائح شعبية عريضة. عسى أن يشهد السوريون في مختلف مناطقهم وأماكن وجودهم مبادرات على المستوى السياسي، لإحياء دولة العدالة والمساواة وسيادة القانون.

مقالات ذات صلة