حرير- قد يمرّ وقت طويل قبل أن ينكشف سر المنطاد الصيني الذي قطع أكثر من 5000 كيلومتر من بر الصين إلى الولايات المتحدة، والذي تريثت واشنطن في إسقاطه بضعة أيام كي لا توقع شظاياه إصاباتٍ بمواطنين أميركيين، كما قالت، ثم أسقطته بعدما أخضعته للمراقبة والتتبع ومعرفة مكوناته.

قال الأميركيون إن هدف المنطاد الذي طار فوق مواقع عسكرية أميركية حسّاسة هو التجسّس، فيما قال الصينيون إنه “منطادٌ مدنيٌّ يستخدم للبحث العلمي ولمعرفة تقلبّات الطقس، وقد انحرف عن مساره بسبب رياحٍ غير متوقعة”، قد لا نصدّق الرواية الأميركية كما قد لا نصدّق الرواية الصينية. وقد اعتدنا من الجانبين أن يقولا نصف الحقيقة في حالاتٍ تمسّ الأمن القومي لهما. ومهما يكن مبلغ الصدق في الروايتين، تسبّبت الواقعة في إجهاض حدث تاريخي كان يمكن أن يتحقّق، لو تمت زيارة كانت مقررة لكبير الدبلوماسية الأميركية أنتوني بلينكن إلى بكين، حملت الأمل في تخفيف حدّة السخونة التي طبعت العلاقة بين البلدين، ثم ألغتها واشنطن ردّا على حكاية المنطاد، وحاولت الصين أن تخفّف من ردّ الفعل الأميركي، فأقدمت على إقصاء مسؤول هيئة الأرصاد الجوي الذي حمّلته مسؤولية “الخطأ”، وفسّر محللون هذا الإجراء بأن العملية قد فعلها طرفٌ معينٌ من دون معرفة القيادة الصينية، وعلى طريقة أن اليد اليمنى قد تفعل شيئا لا تعرف به اليد اليسرى!

وعلى أية حال، قد تكون الحكاية كلها من حلقات التجسّس المتبادل بين الدولتين الكبريين، وهو أمرٌ مسلّمٌ به، خصوصا عندما يرتفع منسوب التوتر بينهما، وربما تشكّل الواقعة إغراء لكتّاب روايات الجاسوسية ومغامرات العمل السرّي للخوض فيها، والخروج بروايةٍ مثيرةٍ تستقطب القارئ كما استقطبته من قبل رواياتٌ اعتمدت على وقائع تجسّس بين أكثر من دولة ودولة.

عندنا أيضا واقعة تجسّس “طازجة” أخرى، لكنها من نمطٍ مختلف، كشفت عنها سلطات طهران، عندما اعتقلت شخصا شغل مواقع أمنية وعسكرية حسّاسة، جديدها أخيرا منصب مستشار في مجلس الأمن القومي، ومساعد وزير الدفاع، واتهمته بالتجسّس لصالح بلد جنسيته الثانية البريطانية، هو علي رضا أكبري، الذي حُكم بالإعدام ونُفّذ الحكم فيه. وقد يجد الروائي في تفصيلاتها المعلنة، وفي أسرارها الخفية، ما يغريه على إنشاء روايةٍ يمتزج فيها الخيال بالواقع، يتعرّف القارئ من خلالها إلى قدرة هذا “الجاسوس الخارق”، وبراعته في اقتناص المعلومات السرّية، وتسريبها، بهدوء ومن دونما ريبة، إلى الجهات الاستخبارية التي عمل معها حتى سقط في القفص.

وبعيدا عن قصتي “المنطاد الصيني” و”الجاسوس الخارق”، مما يُعرف عن روايات الجاسوسية أنها، في العادة، لا يمكن التنبؤ بنهاياتها بسهولة، إذ كثيرا ما تتسم أحداثها بالغموض والإبهام، وتزخر بما لا يتوقعه الذهن الذي اعتاد التعامل مع المألوف، وما يعرف أيضا أن هذا اللون من الأدب ينقل القارئ إلى عالم الدهشة والغرابة، ويمنحه متعة اكتشاف الأشياء في مواجهة الأسئلة الصعبة، كما يزوّده بجواز مرورٍ إلى ما وراء الكواليس التي قد تبقى سرّية، وتطوى مع الموت، ولا يعرف أحدٌ عنها شيئا سوى صنّاعها الحقيقيين، إذا لم يتوفر لها من يعمل على إعادة إنتاجها بمشاركةٍ من خياله الخصب.

من بين أبرز من عمل في هذا المجال البريطاني ديفيد كورنويل، الذي عُرف باسم جون لوكاريه، الذي كتب أكثر من 20 رواية، نشرت آخرها بعد رحيله، يترك بطلها منصبه الرسمي المرموق في لندن، ليعمل مديرا لمكتبةٍ في مدينةٍ صغيرةٍ تقع على الساحل، ويتعرّف خلال عمله إلى مهاجر بولندي يدخل معه في عمل استخباري محاط بعلامات استفهام كثيرة، كما اشتُهرت رواية أخرى له، أعطاها عنوان “الجاسوس الآتي من البرد”، تروي قصة عميل مزدوج يعمل بين بريطانيا وألمانيا الشرقية إبّان الصراع بين الغرب والمعسكر الاشتراكي. وفي رواية ثالثة عرضٌ لواقعة اغتيال الرئيس الأميركي جون كيندي، مفترضا أن للقاتل علاقة سابقة بالمخابرات السوفييتية (كي جي بي). ولعل خدمة لوكاريه في الاستخبارات في أثناء خدمته العسكرية أكسبته الخبرة والبراعة في كتابة رواياته التي جعلته يحصل على لقب “ملك روايات التجسّس” بجدارة.

وفي عالمنا العربي، عرف هذا اللون من أدب الرواية على نطاق واسع بعد ظهور رواية صالح مرسي “رأفت الهجان”، التي عرّفتنا على جاسوسٍ زرعته المخابرات المصرية في إسرائيل، وأقام علاقاتٍ وثيقةً مع عدد من صنّاع القرار هناك، إلى درجة أنهم عرضوا عليه دخول الكنيست. ولم يكن اسم صالح مرسي معروفا بهذه الدرجة من الشهرة، قبل أن يكتب روايته هذه، مع ملاحظة أنه كتب رواياتٍ قبلها، بعضها كان يتعلق أيضا بنشاط المخابرات.

مقالات ذات صلة