نظام دولي قائم على قواعد ولكن

علي العبد الله

حرير- تصف الولايات المتحدة النظام الدولي القائم بأنه “قائم على القواعد”، وتعتبر محاولات تعديله أو تغييره مدخلا إلى الفوضى وتكريسا لشريعة الغاب. وهذا قولٌ لا توافق عليه دول وتكتلات إقليمية ودولية وازنة، ترى في النظام الدولي القائم وقواعده تجسيدا للمصالح الغربية، وتغليبا لها على مصالح بقية الدول في ضوء ما انطوت عليه هذه القواعد من إجحافٍ وافتئاتٍ على مصالحها.

تنطوي قواعد النظام الدولي القائم على تعارضٍ بين أهدافه النبيلة المعلنة والإجحاف الذي تنطوي عليه هيكليتُه وتركيبة مؤسّساته وشروط عملها. وهذا يجعل وصف الولايات المتحدة له (نظام دولي قائم على القواعد)، وتمسّكها به، ينطوي على مراوغة بين منطقية الوصف من حيث الشكل ومحاباته المنتصرين من حيث المضمون، لما تنطوي عليه قواعده من تمييز يجوّفها ويجعلها وبالا على حقوق دول كثيرة ومصالحها.

أُنشئ النظام الدولي القائم بعد مفاوضات طويلة ومعقدة بين دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت مشاوراتٌ أوليةٌ بين الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، عام 1941، في ذروة هذه الحرب، لتحديد أهداف عالم ما بعد الحرب، نجم عنها ما عُرف بـ “ميثاق الأطلسي”، والذي تضمّن تشكيل بديلٍ دوليٍّ لعصبة الأمم التي فشلت في حفظ السلم والأمن الدوليين، سمّاه روزفلت “الأمم المتحدة”، وقد تبنّت بقية دول الحلفاء في الحرب الميثاق بعد إدراج اقتراحات سوفييتية في نصّه فغدا “ميثاق الحلفاء” تحت اسم “الأمم المتحدة”، وغدا التوقيع عليه قاعدةً للانضمام إلى الحلفاء، أو الأمم المتحدة، التي أعلن عن تأسيسها رسميا عام 1945، بعد توقيع 50 دولة على الميثاق العتيد، أصبح عدد دولها الآن 193 دولة، وعن أهدافه قال الميثاق: “المحافظة على السلم والأمن الدوليين عن طريق اتخاذ تدابير جماعية فعَّالة لمنع وإزالة الأخطار التي تهدّد السلم، وتنمية العلاقات الودّية بين الدول على أساس احترام مبدأ المساواة في الحقوق وتقرير المصير للشعوب وتعزيز وتشجيع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع، بما في ذلك الحرية الدينية، من دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين، وتنسيق أعمال الدول في تحقيق هذه الغايات المشتركة”. وقد عزّزوا تبنّي حقوق الإنسان بـ “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، غير الملزم قانونا، عام 1945، وعادوا وجعلوه أساسًا لمعاهدتين ملزمتين، “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” عام 1966 و”العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية” عام 2013.

لم يكتف “الحلفاء” باستكمال الهيكل الإداري للكيان السياسي الوليد (الجمعية العامة، مجلس الأمن، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، مجلس الوصاية، محكمة العدل الدولية، والأمانة العامة)، بل زادوا بتأسيس نظام نقد دولي عبر عقد مؤتمر عام 1944، حضرته 44 دولة، في منطقة بريتون وودز في نيوهامبشير في الولايات المتحدة لوضع أسسه، أسفر عن اتفاقية حملت اسم المكان، تأسس بموجبها البنك الدولي، بدأ عمله في يونيو/ حزيران 1946، يضم حاليا 189 دولة، وصندوق النقد الدولي، بدأ عمله في 27 ديسمبر/ كانون الأول 1945، يضم حاليا 188 دولة. وكالتان مستقلتان ومتخصصتان ومراقبتان في إطار الأمم المتحدة، يقدّم البنك الدولي “قروضًا للتنمية الدولية”، بينما “يشجّع صندوق النقد الدولي التعاون الاقتصادي الدولي، ويمنح قروضًا طارئة للبلدان المثقلة بالديون”، وفق إعلان المؤتمرين، وتقدّموا أكثر في ضبط السوق بتثبيت سعر صرف العملات الوطنية، جعلوا الدولار الأميركي معيارا لتحديد أسعارها، مع ربط الدولار بالذهب ووضع سعر ثابت للتحويل بينهما، 35 دولارا لأونصة الذهب، وزنها قرابة الـ 30 غراما، والتزام الولايات المتحدة بتحويل دولارات الدول إلى ذهب، فغدا الدولار الأميركي عملة احتياطية عالمية، وقد أطلق على هذا الاتفاق نظام بريتون وودز للصرف المالي الدولي. كما ذهبوا إلى ضبط التبادل التجاري عام 1948 بعقد اتفاقية تحت اسم “الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة”، المعروفة اختصارا بـ “الغات”، وقعت عليها 23 دولة. توسّعت بإدخال التجارة في الخدمات والملكية الفكرية وإصلاح التجارة في القطاعات الحسّاسة، مثل الزراعة والمنسوجات، في مجالات اهتمامها، تحولت في 1 يناير/ كانون الثاني عام 1995 إلى منظمة التجارة الدولية، التي تضم حاليا 164 دولة.

ومع ظهور السلاح النووي وتوسّع الدول في الاعتماد على الطاقة النووية ومخاطر انتقالها إلى الاستخدامات العسكرية، تم تأسيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية يوم 29 يونيو/ حزيران 1957، منظمة مستقلة هدفها تشجيع الاستخدام السلمي للطاقة النووية والحد من التسلح النووي، عبر أعمال الرقابة والتفتيش والتحقيق في الدول التي لديها منشآت نووية. تعمل الوكالة تحت إشراف الأمم المتحدة من خلال اتفاقية خاصة، من بنودها تقديم تقرير سنوي إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعند الضرورة، إلى مجلس الأمن، حول عدم امتثال الدول لالتزاماتها المتعلقة بالإجراءات الوقائية فضلا عن المسائل المتعلقة بالسلام والأمن الدولي. ضمت 134 دولة.

هذا باختصار سياق تأسيس النظام الدولي القائم بهيكله العام ومؤسّساته الدولية وأنظمتها الداخلية وقواعد عملها ومكاتبها الإقليمية، حيث يبرز دور الولايات المتحدة الكبير في تأسيسه، والموقع المميز الذي استأثرت به داخله بفرض عضوية دائمة في مجلس الأمن مع حق النقض (الفيتو) لها ولحلفائها، وجعل القرارات الملزمة في المنظمة الدولية من صلاحيات مجلس الأمن حصرا، وفرض الدولار عملةً معيارية لتسعير العملات في السوق، وربط عدد أصوات كل دولة في “البنك” و”الصندوق” بحجم مساهمتها بتمويلهما ما منحها، باعتبارها أكبر المموّلين، حصة تصويتية جعلتها قادرةً على التحكّم بإعطاء القروض ومنعها، من جهة ثانية.

وعكست الممارسات الأميركية تجاوزها أنظمة النظام الدولي الذي لعبت دورا رئيسا في تأسيسه بدءا بالأمم المتحدة التي قوّضت سمعتها ومكانتها عبر الإفراط في استخدام حق النقض (الفيتو)، استخدمته 82 مرّة منها 43 مرّة دعما لإسرائيل في مواجهة الفلسطينيين؛ وعبر تجاهل قرارات وتوصيات أممية لا تخدم مصالحها. ومن خلال عقد اتفاقات وتفاهمات ثنائية مع الاتحاد السوفييتي خارج نطاق الأمم المتحدة، “فقد عملت على إضعاف دور الأمم المتحدة في القضايا الكبرى أو المشروعات الرئيسية لكي لا تتدخّل في سياساتها أو تعارضها. وآخر شيء تريده الولايات المتحدة وجود أمم متحدة مستقلة لها ثقل عالمي”، وفق الباحث في العلاقات الدولية والمدير السابق لمركز التنظيم الدولي في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا، إدوارد لاك، وهو ما أكّده الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، حين أعلن في فبراير/ شباط 2003، ردّا على تحفّظ الأمم المتحدة على حجج واشنطن لغزو العراق، “الدول الحرّة لن تسمح للأمم المتحدة بأن تفقد قيمتها التاريخية كمجتمع غير فعال وغير مفيد للنقاش”.

وكانت ضربتها الثانية لهذا النظام موجّهة لنظام بريتون وودز للصرف المالي الدولي، حيث أعلنت عام 1971 فكّ ارتباط الدولار بالذهب، بحيث لم تعد تلتزم بتبديل الدولار بالذهب للدول الأخرى، وبحلول عام 1973 تم استبدال “نظام تعويم العملات الورقية” بـ “نظام بريتون وودز”، وغدت تطبع دولارات دون غطاء من الذهب وتبيعها للعالم. وهذا ما حصل بعد اعتداء 11 سبتمبر (2001) على برجي التجارة حيث طبعت 83 مليار دولار وباعتها للعالم. كما فرضت شروط تقديم قروض من “البنك” و”الصندوق”، تتناغم مع توجّهاتها لفرض السوق الحرّة على العالم، حيث يطلب “البنك” و”الصندوق” تنفيذ وصفة واحدة لإصلاح اقتصاد الدول المتعثرة كي يمنحاهم قروضا تبدأ برفع الدعم عن المواد الاستهلاكية وضغط العمالة في مؤسّسات الدولة وتحرير سعر العملة وتحرير التجارة وخصخصة القطاع العام … إلخ، وصفة نتائجها كارثية في الدول الفقيرة التي تلعب فيها الدولة دور الأب في الأسرة، وهذا دفع مراقبين اقتصاديين إلى انتقاد هذه الشروط، ولا تُنسى سطوة الولايات المتحدة على “البنك” و”الصندوق” وتحكّمها بقراراتهما وقدرتهما على إعطاء القرض أو عدمه لأي دولة، حيث إنها الدولة الوحيدة التي تمتلك حق الاعتراض (الفيتو) من بين الدول الأعضاء فيهما على خلفية كونها المموّل الرئيس لهما.

وعلى صعيد الاتجار بحقوق الإنسان، حدّث ولا حرج، حيث اتّصف استخدام الولايات المتحدة الملفّ بفجاجة ووقاحة عالية، فلا يضير الدول التي تتناغم مع مطالب الولايات المتحدة ومصالحها ما تفعله بشعوبها، في حين تضاء الأضواء الحمراء، وتبدأ وسائل الإعلام بالنشر والتضخيم لأي انتهاك مهما صغر، تقوم به دولة خصم. وهو ما اعترفت به وزيرة الخارجية الأميركية في إدارة جورج بوش الابن، كوندوليزا رايس، في محاضرتها في القاهرة “أخطأت الولايات المتحدة عندما سعت على مدى 60 عاما إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط على حساب الديمقراطية ولم ننجز أيا منهما”، وهو ما تفعله إدارة الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، بغضّها النظر عن انتهاكات حكومات دول حليفة لحقوق الإنسان.

ثالثة الأثافي، كما تقول العرب، عسكرة السياسة الخارجية الأميركية، واستخدام القوة من دون تفويض من الأمم المتحدة، من جهة، وعملها، من جهة ثانية، على فرض قوانينها على بقية الدول من خلال العقوبات الثانوية، معاقبة دول تتعامل مع دولة معاقبة أميركيا.

دفع هذا، وغيره كثير، دولا كثيرة لرفض النظام الدولي القائم على خلفية عدم رضى، كما عكسته مواقف دول كثيرة أخيرا عبر تصويتها على قراراتٍ في الجمعية العامة للأمم المتحدة تدين العدوان الروسي على أوكرانيا، بالامتناع عن التصويت، واتخاذ دول موقف الحياد، ودول التعاون مع روسيا، اقتصاديا وعسكريا، ودول بتبنّي الرواية الروسية أو تفهمها لأسباب غزوها أوكرانيا. وقد كان لافتا تنامي عدد الدول الراغبة في الانضمام إلى منظمّة شنغهاي للتعاون، وإلى تجمّع الدول الأسرع نموا (البريكس)، باعتبارهما مدخلا إلى تغيير النظام الدولي القائم، ما يمكن اعتباره دليلا إضافيا على تنامي الرفض للنظام الدولي القائم، فالرفض مرتبط بشكل وثيق بافتقار هذا النظام للعدالة والمساواة، في ضوء اعتماده على توازن القوى وتجاهله مطالب الشعوب الضعيفة.

في الختام، الكشف عن عدم عدالة النظام الدولي القائم، على خلفية عدم موضوعيته وانحيازه لصالح القوى الكبرى، إن في توزيع المواقع والأدوار والاهتمامات والأولويات في الخطط والبرامج، لا يعني أن هذا النظام عديم الفائدة وغير قابل للإصلاح، كما لا يعني قبول النظام الدولي البديل الذي تسعى روسيا إلى فرضه عبر ممارساتها الإمبراطورية الوقحة، ولا القبول بالتعديلية التي تطرحها الصين في ضوء عدم وضوحها لعدم طرح صيغتها النهائية.

 

مقالات ذات صلة