الصين وأميركا بين تجميد الصراعات وإشعالها

حيان جابر

حرير- اتفق الجانبان السعودي والإيراني على استئناف العلاقات الدبلوماسية، المقطوعة منذ قرابة سبع سنوات، عبر وساطة قادها الرئيس الصيني شي جين بينغ، الأمر الذي فتح الباب أمام أسئلة عديدة بشأن تفاصيل الاتفاق وأبعاده وأسبابه، فضلاً عن دلالات الدور الصيني وتأثيره.

توقيت الاتفاق والدور الصيني عاملان بارزان في الاتفاق، بغض النظر عن اتجاهاته المستقبلية، إذ يأتي الاتفاق بعد تصاعد حدّة التهديدات العسكرية والأمنية تجاه إيران، خصوصاً الصادرة عن قادة الاحتلال الصهيوني، والتي تزامنت، أخيراً، مع تواطؤ أميركي، يصل إلى حدّ الدعم الكامل، كما في تصريحات وكيل وزير الدفاع الأميركي للشؤون السياسية كولن كال، في بداية شهر مارس/ آذار الحالي؛ التي أدلى بها في مجلس النواب الأميركي، قائلاً “كان من المفترض أن تستغرق إيران نحو 12 شهراً لإنتاج ما يكفي من المواد الانشطارية لقنبلة واحدة. والآن سيستغرق الأمر نحو 12 يوماً”، ثم تابع: “لا يزال هناك رأي مفاده بأنه إذا كان بإمكانك حلّ هذه المشكلة دبلوماسياً وإعادة القيود على برنامجهم النووي، فهذا أفضل من الخيارات الأخرى. لكن في الوقت الحالي، فإنّ خطة العمل الشاملة المشتركة مجمّدة”. وهناك بعدان مهمّان في تصريحات كولن، الأول إقراره بأن إيران على أعتاب دخول نادي الدول النووية، والثاني مفاده غياب الحل الدبلوماسي، وهو ما يمكن اعتباره تلميحاً أميركياً لتأييد الخيار العسكري، على اعتباره المسار الوحيد المتبقي لمنع امتلاك إيران سلاحاً نووياً.

عثرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في منتصف الشهر الماضي (فبراير/ شباط) على جزئيات يورانيوم مخصّب بدرجة نقاء (83.7)، في منشأة فوردو النووية الإيرانية، ما يمثل مؤشّراً قوياً على اقتراب إيران من صناعة سلاح نووي، إن لم يتعرّض مشروعها لضربة عسكرية قاصمة، كما يهدّد قادة الاحتلال الصهيوني دوماً. سارعت إيران في أعقاب ذلك إلى التعاون مع الوكالة الذرية، بهدف تدارك الوضع، والحد من إمكانية التصعيد العسكري، وهو ما تبع/ ترافق مع زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الصين، استجابة لدعوة نظيره شي جين بينغ، ما يوحي بدور صيني دفع إيران نحو التعاون مع طلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

تنحو استراتيجية إدارة الرئيس الأميركي بايدن الحالية إلى تصعيد الصراعات الدولية مع الأطراف التي تمثل تهديداً استراتيجياً لها، أي الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، عبر حلفاء أميركا ومعسكراتها الإقليمية التي أعادت إحياءها، إذ دفعت أميركا بكل قوتها من أجل تصعيد التوتر بين دول الاتحاد الأوروبي وروسيا. كذلك شجعت قيادة الاحتلال الصهيوني لتحالف أمني؛ وربما عسكري، شبه معلن مع دول المنطقة العربية، انطلاقاً من اتفاقيات إبراهام والاتفاقيات الأمنية والعسكرية اللاحقة. وعملت وتعمل الولايات المتحدة على تعزيز تحالفها الوثيق في محيط الصين الإقليمي، وبالتحديد مع كل من أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وبدرجة أقل مع الهند أيضاً، الأمر الذي يمثل تهديداً أمنياً وعسكرياً واستراتيجياً للصين، مع ما يرافقه من تصعيد إعلامي واقتصادي وسياسي أميركي تجاه الصين، كما في أزمة المنطاد وتايوان وازدياد الضغط الأميركي على الصين لاتخاذ موقف حاسم من الغزو الروسي لأوكرانيا، وغيرها من الملفات الحسّاسة في العلاقات الصينية – الأميركية، وفي علاقة الصين مع دول الاتحاد الأوروبي.

يوحي التصعيد الأميركي الواسع تجاه أعدائها الاستراتيجيين؛ الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، بأنّ القراءة الأميركية تعتبر الظرف الدولي الحالي ملائماً لحسم الصراع مع منافسيها الدوليين، بما ينهي الخطر الاستراتيجي على مكانة الولايات المتحدة ودورها، إذ نجحت الإدارة الأميركية، أخيراً، في استعادة حيوية شبكة الحلفاء والمعسكرات في العالم، رغم بعض مظاهر التوتر والاضطراب في علاقاتها مع بعض الحلفاء غير المؤثرين على حسابات أميركا الاستراتيجية في الوقت الراهن، كما في العلاقة مع السعودية ومصر وباكستان. إذ تتبنّى الإدارة الأميركية استراتيجية تصعيدية واضحة المعالم، تدفع بجنون نحو عسكرة الأزمات الدولية، غير عابئةٍ بتكلفة هذا التصعيد على المديين، القصير والمتوسّط، خصوصاً في ما يتعلق بتأثيراته الإنسانية والاقتصادية، وكأنها شرٌ لا بد منه.

في المقابل؛ تسعى الصين اليوم إلى إفشال المخطط الأميركي التصعيدي، نتيجة النجاح الأميركي في إحياء تحالفاتها الأمنية العابرة للقارّات، عبر سياسة نقيضة تقوم على تجميد الصراعات الدولية المشتعلة، كما في مبادرة الصين لحل النزاع الروسي – الأوكراني، التي لم تحقق أي تقدّم، نتيجة عوامل عديدة أهمها الرفض الروسي، إذ تصرّ روسيا على حسم الصراع ميدانياً، على عكس التوجه الصيني الساعي إلى تجميد الصراع، على قاعدة لا خاسر ولا رابح، وبما يفتح الباب أمام تأجيل الحسم إلى مرحلة مستقبلية، توائم المخطّطات الروسية وربما الصينية، على عكس المرحلة الراهنة التي نجحت فيها الإدارة الأميركية في تطويق المطامح الروسية، وربما الصينية أيضاً، إذ يُعتقد أن يناقش كلّ من الرئيسين الروسي والصيني خطة السلام الصينية في خضم زيارة الأخير روسيا، المتوقع حدوثها في الأسابيع القليلة المقبلة.

تبدو الخطوات الإيرانية أخيراً جزءاً من استراتيجية الصين لخفض الصراع، التي تحاول محاصرة استراتيجية التصعيد الأميركية، سواء في ما يتعلق بالتفاهمات التي وقعتها إيران، وتعهّدت بتنفيذها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أو اتفاق إيران والسعودية، في حين يبدو نجاح الاستراتيجية الصينية متوقفاً بالدرجة الأولى على مدى تجاوب الموقف الروسي، ومدى استعداده لتقديم تنازلات مؤقتة، كما تتوقف، أيضاً؛ على مدى تعاون ألمانيا مع الصين بعيداً عن الرغبات الأميركية، بما يحقّق مصالح ألمانيا الاستراتيجية أولاً، ويخفّض حدة التوتر الأوروبي – الروسي ثانياً، ويحقّق مصالح الصين الاستراتيجية ثالثاً.

إقليمياً ووفق تقديرات كاتب المقالة؛ تفرض استراتيجية خفض التصعيد الصينية على إيران تغييراتٍ جوهرية في سياساتها الإقليمية، تعيد الساحة الإقليمية إلى السياسات التوافقية الوسطية التي تضمن الحد الأدنى من مطالب دول الإقليم الفاعلة، إيران وتركيا وغالبية دول الخليج العربي، وربما مصر والجزائر والمغرب أيضاً، وهو ما قد يؤدّي إلى تراجع تعنّت حلفاء إيران في كل من لبنان والعراق واليمن، وبدرجة أقل في سورية والبحرين، فهل نشهد ذلك قريباً؟ وهل تنجح الصين في تجميد الصراعات الدولية راهناً؟ وهل تنجح الصين في كسر تماسك معسكرات الولايات المتحدة وتحالفاتها العابرة للقارّات؟ قد تحمل الأشهر المقبلة مؤشّرات على نجاح أو فشل كل من الاستراتيجيتين الأميركية والصينية، مع انعكاسات ذلك، التي قد تقودنا إلى مرحلة عالمية أكثر عنفاً وصداماً أو تعيدنا إلى توازنٍ قلِقٍ غير مستقر.

مقالات ذات صلة