الحرب وكأس العالم والمدموزيل … د.أحمد جميل عزم

ليست حرب حزيران 1967 التي ألحت عليه، بل حرب 1982، في لبنان.

عاد للأجندة فوجد أن رمضان بدأ حينها في 22 حزيران (يونيو)؛ أي أنّ اعتقاده الدائم أنّ رمضان يدور دورة تامة حول العام كل 36 عاماً ليس دقيقاً. ولكن هذا لا يلغي اعتقاده بدوران العالم أو التاريخ حول نفسه مرة كل 36 عاما، وبضرورة إحياء الذكرى 36 لكل شيء.

اندلعت الحرب يوم 6 من ذلك الشهر، وعندما بدأت كأس العالم، بعد أسبوع، تخيل، وهو في مكان قريب من القدس، أنّ اهتمام الفلسطينيين بالحرب يوازي اهتمامهم بهزيمة الجزائر (أو العرب كما قالوا) للألمان في مباراتهم. وأن شعورهم بتواطؤ النمسا وألمانيا المشهور حينها، في مباراتهما للوصول لتعادل بينهما يُخرج الجزائر من البطولة يوازي شعورهم بالخذلان. كانت نشوة الانتصار الجزائري كنشوة الصمود الفدائي، ومؤامرة التعادل، كصرخة ياسر عرفات حينها، “يا وحدنا”.

صارت “يا وحدنا” تتردد داخله مع كل حرب على الفلسطينيين، وسيظن أن أغنية فرقة العاشقين، “إشهد علينا يا عالم وعبيروت” تخليدٌ لصمود لم يمنع الخروج من لبنان، وأن قول الأغنية “80 يوم يا بيروت مشفناش غير الهمّة الإذاعية”، تعبير عن “يا وحدنا”.

كانت أول كأس عالم يعيها، وأول حرب يشهدها. وسيفقد اهتمامه كليا لاحقاً بكأس العالم والرياضة، فيما الحروب متلاحقة، ويخشى حزيران ورمضان؛ فالحروب الإسرائيلية تكثر بهما، والآن توافق الشهران.

كلما حل كأس العالم، أصابته سعادة، فالعالم ينشغل به، ما يعطيه حيزاً خاصاً به. لكنه دائم الترقب خوفاً من حرب؛ ينظر للشارع، كمن يخشى دخولها غفلةً. يبحث عن سيدة بثوبٍ مُطرّز مهترئ، كانت تحمل ورق العنب، تبيعه للبيوت، في “عبّ” ثوبها ميزان زنبركي، ويتذكرها تقف بثوبها، رافعةً ذراعيها عالياً، تدعو “يا رب لو راحوا مين إلنا بعدهم”. كانت تتحدث عن فدائيي لبنان. وهو الآن يتساءل هل حقاً قالت أمامه، إنّ ابنها معهم، أم أنّ خياله أضاف هذه “الجزئية” أثناء تكرار تذكر المشهد؟

يتكرر السؤال: أتعود الحرب هذا الشهر؟ هل إعدام الشاب عزّ التميمي، بدم بارد في قرية النبي صالح هذا العام استذكار، أم هذه البداية؟. يفكر وهو يشاهد الجريمة، لماذا الجنود الإسرائيليون صامتون؟ يقتلون عزّ ويلقونه في العربة المصفحة، والناس يصرخون، وهم صامتون. لماذا تلقوا صفعة الفتاة عهد تميمي، بصمت، وقتلوا عز بصمت؟. ألأنهم يجهلون لغة الأرض؟ فقط لغة القتل؟. ثم فكّر ماذا ستتذكر عهد بعد 36 عاماً؟. سيكون قد غادر الحياة.

يتساءل دائماً، كيف كان حزيران الآخرون؟ قرأ هذا العام، نصّ نسرين شبيب، على موقع “جدلية” نموذجاً لمن كانوا بعمره. بالنسبة لنسرين بدأت الحرب في يومٍ سمحت فيه معلمتها، “المدموزيل” لها بالجلوس في حضنها، أثناء الدرس؛ فهامت في عطرها الراقي، وشعرها الأسود، وأناقتها، ولكن لم ينته اليوم، إلا وقد بدأ القصف، وأخذهم الباص للبيوت فكانت الطريق مغلقة، فعادت تنتظر في غرفة السائقين في المدرسة، وعندما جاءت أمها، سألتها “هل أنت بخير؟”، قالت نعم، وأضافت في سرها، أو ربما تظن الآن بعد 36 عاماً، أنّها أضافت في سرها، “ولكني متُ اليوم مرة أخرى؟”، مستذكرةً مرورها من حدود عربية، ومحاولة الجنود جعلها تتحدث، ليكتشفوا لهجتها، وإن كانت فعلا من جنسية جواز السفر (المزور) الذي تحمله أمها، وظلت صامتة، وسمح لهم بالمرور، فاحتضنتها أمها بامتنان صامت، لصمتها. وتذكرت نسرين عندما قتل أنور السادات في القاهرة، العام 1981، فخبّأت شقيقها الصغير في الخزانة، في بيروت، لئلا تصله الرصاصات.

لم تعد لزيارة غزة بعد تلك المرة، والمعاناة، وتلوذ بالريف الألماني، حيث قررت عدم إخبار طفليها عن ذكريات الموت. ولكن هذا لم يمنع الطفل من إبداء الحب لأمه وهو يأكل معكرونة “بالستينا” معدة بزعتر فلسطيني، علمته قطفه من الحديقة، وأخبرته أنه من فلسطين، حيث ستأخذه يوماً.

يتذكّر دائماً أنه عندما سمع رجلا يتحدث عن المباراة حينها، كان قبرا لعازر، الذي أحياه المسيح بأمر ربه من غفلة الموت، خلف الرجل. ولا يستطيع التفريق بين أسطورة طائر الفينيق، الذي لا يحترق وينهض من الرماد دوماً، الذي شبه عرفات الفلسطينيين به، ولعازر.

مقالات ذات صلة