شبح الجوع في دافوس

يقظان التقي

حرير- يخيم شبح الجوع وعودة الحرب الباردة على جدول أعمال مؤتمر دافوس الاقتصادي العالمي، بعد نصف قرن وأكثر على انطلاقه، في مرحلة من التحولات والمتغيرات العميقة. يلتقي أصحاب الأعمال والثروات (116 مليارديراً)، والقادة المسؤولون التنفيذيون للشركات الكبرى في قمّة جبل دافوس في سويسرا، فيما يواجه العالم مجموعة مأساوية وخطيرة من الأزمات المتزامنة، واستمرار جائحة كورونا في الصين، ذات تأثير في أغلب الناس، في ظل وضع جيوسياسي، وجيواقتصادي هو الأكثر تعقيداً منذ عقود، لن يعود العالم فيه كما كان.

للعام الثاني على التوالي، يهيمن الغزو الروسي لأوكرانيا على الاجتماع العالمي، وينصبّ التركيز على الآثار الاقتصادية للحرب والركود المحتمل، ويسلّط الضوء على الاختلال المناخي. ويطمح المنتدى إلى أن تتمكّن النخب الاقتصادية والسياسية من التعاون في مواجهة تصدّعات كبرى وسط مثلث القارات الثلاث، تهدّد بتقويض قواعد النظام الدولي. وهي انقسامات ليست بروح الحضارة، ومشتركات المصالح لنظام عالمي أكثر عدالة وتوازناً. وهذا أمر تشهد عليه منظمة أوكسفام في عملها في جميع أنحاء العالم، والبنك الدولي، الذي أعلن الفشل في تحقيق إنهاء الفقر المدقع عام 2030: “إنّ التقدّم للحد من الفقر قد توقف”، وصندوق النقد الدولي الذي حذّر من عودة الحرب الباردة.

تلتقي النخب العالمية في دافوس، في تظاهرة غالباً ما كانت تستقطب اهتماماً في معنىً سياسي، أكثر مما هو تقني، واقتصادي، مع حضور قيادات دول ورؤساء حكومات، ما يوازي الاهتمامات بالقمم الكبرى، في رؤية واستشفاف للمدى الذي تبلغه الأوضاع الدولية، ومسار العولمة التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وهي محور اجتماعاتٍ ليست بعيدة عن دافوس، في في زيورخ، وفي بالي لاحقاً بين الرئيسين، الأميركي بايدن والصيني شي جين بينغ. مقاييس عالمية تتراجع، ما يُسهم في تزايد الشقاقات الجيوسياسية وتصاعد السياسات الحمائية، والتحوّل نحو عالم مجزّأ.

ويرى مؤسس المنتدى كلاوس شواب أنّ “أحد الأسباب الرئيسية لهذه الشرذمة نقص في التعاون”، ما يؤدّي إلى اعتماد “سياسات قصيرة الأمد وأنانية”. وقد حمل هذا الوضع بعضهم على التساؤل بشأن مستقبل العولمة، وقد تحوّلت شبه نوستالجيا، وكانت تشكّل، منذ نصف قرن، محور فلسفة دافوس.

وتعتبر الشريكة والخبيرة الاقتصادية، كارين هاريس أنه “كان هناك، في وقت ما، الأمل بالعودة إلى الوضع الاعتيادي السابق، وضع عالم معولم إلى حدّ ما”، مضيفة: “أعتقد أن ثمّة إقراراً اليوم بأن هذه الحقبة من العولمة في طور الانتهاء” حتى لو أنه سيبقى منها نقاط تعاون “حول مجموعة أكثر انحساراً من المسائل”، فمشروع العولمة في التجانس الثقافي على مستوى عالمي يعيش ردوداً انطوائية. حتى مسألة المناخ تتحوّل إلى معركة “أكثر انعزالية”، مع “قانون الحدّ من التضخم” الذي ينص على مساعدات كبرى للشركات المتمركزة في الولايات المتحدة في قطاع السيارات الكهربائية والطاقات المتجدّدة، وضرائب الكربون على الحدود التي يجري اعتمادها في أوروبا.

لا قدرة للمنتدى على تقديم حلول للأزمات التي سبّبتها الحرب الروسية على أوكرانيا، وانعكاساتها على السياسات العالمية في مجالي الطاقة والدفاع، ولا يمكن تصديق روسيا الغازية في دعوتها إلى عالم التعدّدية القطبية، وكل من روسيا والصين تهددان بالحرب وتخوضانها. وللسنة الثانية على التوالي، ترسل أوكرانيا وفداً إلى القمة، برئاسة عقيلة الرئيس فولوديمير زيلينسكي، ما يشكل مناسبة للتوجّه إلى الشخصيات السياسية القليلة المشاركة في الدورة الحالية، (مع استبعاد روسيا )، من ممثلي الوفد الصيني، المستشار الألماني أولاف شولتز، رئيس وزراء إسبانيا، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، والأمين العام للحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ، إضافة إلى حوالى ألف رئيس شركة، ووسائل إعلام عديدة، وممثلين عن المجتمع المدني من منظمات غير حكومية، ونجوم بينهم الممثل إدريس إلبا ومغنية السوبرانو رينيه فليمينغ.

تحوّلت الساحة بمجملها لرجال الأعمال، ما يفسر اشتغال القادة السياسيين بأمور الحرب وتداعياتها، والاقتصاديون هم من يتحمّلون مسؤولية معالجة التداعيات. ولكن من دون بدائل وسط تفاقم الحرب والاختلال البيئي المرعب، إذ يسعى المنظّمون إلى أن تساعد المباحثات في التمهيد للمفاوضات العالمية المقبلة في إطار مؤتمر الأطراف حول المناخ (كوب 28) المقرّر عقده في نهاية السنة في الإمارات. لكن رجال الأعمال يمثلون شركات كبرى تُسهم في التلوث المناخي، وفي ظاهرة لافتة، أحصي إقلاع وهبوط ألف طائرة خاصة في اليومين الأولين، ما يتعارض مع إعلان هؤلاء المشاركين بالحفاظ على البيئة!

في المقابل، يعتزم ناشطون اغتنام الاجتماع لتذكير الدول الغنية بالتزاماتها تجاه الدول الفقيرة. ودعت “الشبيبة الاشتراكية السويسرية” إلى التظاهر في “دافوس” للمطالبة بفرض “ضريبة تستهدف الأثرياء من أجل البيئة وشطب ديون دول الجنوب”. … وأكبر إسهام يمكن أن يقدّمه “دافوس” سيكون الدفع باتجاه إصلاح النظام الضريبي العالمي، للحدّ من التباين الاجتماعي، في خضم ما يرجّح أن يكون أشد تفاقماً في اللامساواة العالمية، وأكثر انتكاسات في معالجة الفقر العالمي منذ الحرب العالمية الثانية. يتوقع صندوق النقد الدولي أن يكون ثلث الاقتصاد العالمي في حالة ركود عامة 2023. ولأول مرّة، وجد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي “أن التنمية البشرية تتراجع في تسعة من أصل عشرة بلدان”. والمؤتمر مدعوٌّ إلى الدفع في إلغاء الامتيازات والثغرات الضريبية التي دامت عقوداً. وقبل عامين، استحوذ أغنى 1% من البشر على ما يقرب من ثلثي جميع الثروات الجديدة، أي حوالى ضعف الأموال التي يملكها أفقر 99% من سكان العالم. وفق تقرير “أوكسفام” الذي رفعت نسخة منه إلى المؤتمر، تتزايد ثروات أصحاب المليارات بمقدار 2.7 مليار دولار يومياً، مع التآكل بسبب التضخّم لأجور ما لا يقل عن 1.7 مليار عامل(ة)، أي أكثر من عدد سكان الهند. زادت شركات الغذاء والطاقة أرباحها بأكثر من النصف عام 2022، ودُفعت 257 مليار دولار للمساهمين الأثرياء، فيما يبيت أكثر من 800 مليون شخص جائعين، و30 مليون طفل يواجهون المجاعة.

كذلك، يأمل متابعون في دافوس “محادثات صريحة” عن انعكاس تطوّر الاقتصاد العالمي، ليس في الولايات المتحدة وأوروبا والصين فحسب، بل كذلك “للأسواق الناشئة، التي غالباً ما تكون الطرف الخاسر جرّاء التطورات الاقتصادية”. يشبّه بعضهم قمّة دافوس بتجمّع نيو ــ إقطاعي، حيث تقرير البقاء للأقوى، وطقوس ثراء مبالغ فيه. وفق “أوكسفام”، يمكن لضريبة تصل إلى 5% على أصحاب المليارات في العالم أن توفر 1.7 تريليون دولار سنوياً، وهذا ما يكفي لانتشال ملياري شخص من براثن الفقر، فيما يواجه الملايين ارتفاعاً غير منطقي في تكلفة السلع الأساسية وتدفئة منازلهم. هي الحلقة المفقودة لتفسير العنف السياسي.

مقالات ذات صلة