فليصمتوا خيراً لهم … عن الوعّاظ الشامتين

عبد الرحمن حللي

حرير- يروى في كتب الآثار أن عيسى ابن مريم عليه السلام ما عاب شيئا قطّ، فمر هو وأصحابه على كلبٍ ميت، فقال له بعضهم: “‌ما ‌أنتن ريحه”، ‍‍ فقال عيسى ابن مريم: “ما أبيض أسنانه”. ويروى عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “إذا رأيتم أخاكم قارف ذنبا فلا تكونوا أعوانا للشيطان عليه، تقولوا: اللهم أخزه، اللهم العنه، ولكن سلوا الله العافية، فإنَّا أصحاب محمّد كنا لا نقول في أحد شيئًا حتى نعلم على ما يموت، فإن ختم له بخير، علمنا أنه قد أصاب خيرًا، وإن ختم له بشر خفنا عليه عمله”. والأخبار التي من هذا الشأن في التعامل مع العُصاة كثيرة، وكذا قصص الوعّاظ والصالحين في التراث الإسلامي متكاثرة، وتشترك جميعًا في الدلالة على خطاب الرحمة والشفقة على خلق الله، وحسن الظن بهم، والحذر الشديد من التألي (الادعاء) على الله في الحكم بمصائر من بدا منه الوقوع في المعاصي، بل وارتكاب الكبائر.

مناسبة ما أشرت إليه أعلاه من أخلاقيات الوعّاظ في التراث الإسلامي في تعاملهم مع من ظهرت منه المعصية هو إبراز وجه الانحطاط والوقاحة في خطابات بعض الوعّاظ المعاصرين لا في التعامل مع العصاة والمخطئين، بل في الحكم على من قضى نحبه وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مكانة الشهداء، ففي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفر له”، ثم قال: “الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله”، والمقصود بصاحب الهدم من يموت نتيجة تهدم يقع عليه كالزلازل ونحوها، فبينما كان العالم يتألم ويتعاطف مع ضحايا الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسورية، وكان ذوو المنكوبين يبحثون عن بارقة أمل لإنقاذ أحبابهم وأطفالهم وعائلاتهم، ظهرت خطاباتٌ دينيةٌ من وعّاظ، لبعضهم مكانة، تعظ الناس بأسلوبٍ لا ينمّ عن الجهل المنافي للحكمة فقط، إنما عن وقاحةٍ في الخطاب، من حيث ما فيه من التألي على الله في الحكم على أمم وجماعاتٍ لا يعرف عن حالهم شيئًا، بل وفيهم الأطفال والصالحون، ومن حيث ما يشتمل عليه هذا الوعظ البارد من شماتة، وإن لم يقصدها، تجعل من الواعظ نموذجًا لمن حذّر منهم النبي صلى الله عليه وسلم غاضبًا من أئمة الصلاة “إن منكم ‌منفرين”، فما بال من يُنَفِّر من الدين أصلًا.

ما انتهى إليه هؤلاء الوعّاظ أنَّ الزلازل ونحوها هي نتيجة معاصي الناس وانتشار الزنا فيهم وشرب الخمور، واستشهدوا بآثارٍ عن بعض السلف في ذلك، وفي ثبوت هذه الآثار نظر، فضلًا عن الإشكال في محتواها، وفي سياق إيرادها، فيتم توظيفها وكأنها سيقت لتقول للضحايا هذا بما كسبت أيديكم، في خطابٍ طهوريٍّ من الواعظ، وكأنه في مقامه في عالم ملائكيٍّ يحفّه الرضا الإلهي! أية فظاظة تتسم بها تلك الموعظة التي تخاطب المصاب والمبتلى وفي أتون مصابه وألمه أن هذا نتيجة عملك وأنك تستحقّه. لقد تكرّر هذا الوعظ الشامت مرارًا، سمعناه في سنوات كورونا الكئيبة، وأن ما أصاب الناس هو نتيجة معاصيهم، وسمعه السوريون من قبل وأنَّ ما حل بهم من تقتيل وقهر وتشريد هو نتيجة أعمالهم، في حين أن أفظع ما حلّ بهم كان عقب صحوتهم للتحرّر من الظلم الذي أثقل كاهلهم، بل وسمعه الفلسطينيون أيضًا في أتون ما حلّ بهم من قتل وتشريد وهم يقارعون الاحتلال، بل وسمعناه مرارًا وتكرارًا من الوعّاظ في تبرير الاستبداد، من خلال توظيف آثارٍ في غير محلها، وأنه “كما تكونوا يولّى عليكم”.

هذا النمط من الخطاب الدعوي مأزومٌ ويعكس أزمات مركّبة، أبرزها سطحية وظاهرية ساذجة في توظيف النصوص والأخبار والآثار والتعاطي معها، سواء من حيث عدم التمحيص في ثبوتها قبل الاستشهاد بها، أو اجتزاؤها من سياقها التاريخي الذي قيلت فيه ومن خوطب بها وإسقاطها على سياق مختلف، أو من حيث التعامل مع أفرادها كحقيقة مطلقة بمعزلٍ عن نصوص وأخبار كثيرة عن القضية الواحدة لا يمكن أن يفهم الموقف الديني من القضية من دون النظر في كليتها. والأسوأ أن تساق الحقائق في غير مكانها، فتفهم على عكس المُراد منها، بل تكون على الضد من مقصد صاحبها، فالداعية والواعظ الذي من واجبه أن يحبّب الناس في الدين بخطابه الرحيم والمتلطّف، بوصف ذلك المنهج حقيقة ومبدأ لا تكلفًا، يصبح منفّرًا وشامتًا، ومصدر تشكيك في الدين، وكأن الوعظ إنما هو تقريع الناس وتأنيبهم فقط، وحتى في أمرٍ لم يقترفوه أصلًا.

وإذا أردنا أن نشير إلى جوانب هذا الخطل في الوعظ المتعلق بالزلازل والمصائب العامة، فإنَّ الكلام يطول، لكن أبرزها الخلط بين الابتلاء الإلهي الذي يصيب جميع البشر، أفرادًا وجماعات، مؤمنين وكافرين، صالحين وعُصاة، وبين توصيف هذا الابتلاء الواقع على أنه عقاب إلهي، فالابتلاء قد يكون نتيجة لأسبابٍ وسنن إلهية ظاهرة، أو يكون مجهول الأسباب، وشأن الواعظ، في كل الأحوال، أن يرشد الناس إلى الصبر والتحمّل، ويُبرز لهم الخير الكامن فيما ابتلوا به ويبعث في نفوسهم الأمل والتفاؤل، وأن ذلك لا يخصّهم، فالمحن شأن الصالحين والأنبياء، وكل الناجحين مرّوا في ظروف قاسية وتجاوزوها، أما تلك النصوص التي أشارت إلى معاقبة بعض الأمم بأنماط من البلاء العام، فإن ذلك لا يعني أن كل بلاءٍ هو عقوبة، ولا أحد يمتلك تفسير بلاء بعينه بذلك، بل إن تفسير بعضها بذلك، وهي متوقّعة في مناطق وظروف معينة، أو حين تكون من صنع البشر أحيانًا، إنما هو من التقوّل على الله الذي قال: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ‌مَا ‌تَرَكَ ‌عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ [النحل: 61].

شأن المصائب أن توحّد الناس وتؤلف بين قلوبهم وتبثّ الرحمة والتكافل بينهم، وهذا حاصل ظاهر في أمم الأرض كافة، فهي فطرة إنسانية، لكن المصيبة الأكبر أن يكون مَن شَأنُهُ المواساة والمؤازرة في موقع الشامت وباسم الله!

مقالات ذات صلة