كيف صورت السينما الغربية الحروب ‏الصليبية؟

سليمان صالح

 

وتوضح ماري ماكارثي ‏في رسالتها للماجستير المقدمة إلى جامعة هيوستن أن شركات الإنتاج الأميركية تقوم بالإنفاق الكبير على هذه الأفلام، ‏حيث تصل تكلفة الفيلم إلى الملايين من الدولارات. ‏وقد خُصص لها كوادر تتميز بالكفاءة من كتّاب السيناريو والمخرجين والممثلين.

‏اضطهاد المسيحيين

و‏تركز هذه الأفلام على تصوير المسلمين بأنهم يقومون باستعباد ‏المسيحيين أو قتلهم، ‏وحرق الكتب المسيحية، وتستخدم في ذلك الكثير من عناصر الإبهار وجذب المشاهدين، ‏لإثارة مشاعر الكراهية ‏ضد المسلمين.

‏وهذه هي الرسالة الأساسية في أفلام الحروب الصليبية، ‏مع تصوير جيوش الصليبيين بأنها تتكون من رجال أشداء وقديسين ‏يحاربون الشر والكفار. وهكذا تلعب أفلام الحروب الصليبية دورا مهما في أجندة هوليود، ‏واختيارها لموضوعات الأفلام والشخصيات التاريخية لتحقيق أهدافها.

‏إساءة استخدام التاريخ

‏إن دراسة أفلام الحروب الصليبية التي أنتجها الغرب توضح كيف تمت إساءة استخدام التاريخ لتحقيق أهداف الاستعمار الغربي، ‏وتبرير العدوان الأميركي على الدول الإسلامية. ‏ففي هذه الأفلام تمت عملية إعادة إنتاج الأحداث التاريخية والشخصيات لوضعها في سياق معاصر بهدف بناء أجندة الجمهور وتشكيل اتجاهاته والتلاعب ‏بمشاعره.

‏الملك ريتشارد والصليبيون

‏ولو درسنا نموذجا لهذه الأفلام مثل فيلم “الملك ريتشارد ‏والصليبيون” الذي أنتجته هوليود عام 1952، وأخرجه ديفيد بوتلر؛ ‏يتضح لنا كيف يتم استخدام الحروب الصليبية للتأثير على الجمهور الغربي، ‏وتحقيق أهداف سياسية. ‏وقد اشتهر ديفيد بوتلر ‏بأنه يخرج الأفلام في الوقت المناسب، ‏بمعنى أنه يقدم الفيلم لتحقيق أهداف معاصرة، ‏وفي الوقت نفسه، فإنه يستطيع إخفاء ‏الرموز في التسلية، ‏فيتمكن من جذب الجمهور، ‏والتأثير على مشاعره، ‏وهو يجيد استخدام لغة السينما وأدواتها.

‏سمات الصورة النمطية للعرب

وينطلق ديفيد بوتلر ‏من السمات التي عملت هوليود على استخدامها في تشكيل صورة العرب مثل ‏الجمال والصحراء، ‏بينما ينطلق صوت الراوي في هذا المشهد ‏ليعلن أن الملك ريتشارد ‏يقسم على استعادة القدس من أيدي صلاح الدين ملك القبائل العربية، وسيد فنون حرب الصحراء.

وتربط ماري ماكارثي ‏بين إنتاج هوليود لفيلم “الملك ‏ريتشارد والصليبيون” عام 1952، ‏وإنشاء دولة إسرائيل، حيث تقول “إن إنشاء دولة إسرائيل واحتلالها لفلسطين يشكل استمرارا للحروب الصليبية، ‏ومن الواضح أن إسرائيل قد اعتمدت على تلك الصيغة ‏لدفع الجمهور الغربي ‏لتأييدها، ‏وإثارة مشاعر الجمهور للثأر لهزيمة الصليبيين، وأنه على ‏الغرب أن يبذل كل جهده لمساعدة دولة إسرائيل وحمايتها من العرب”.

‏وهذا يوضح أجندة هوليود، ‏وكيف أنها تستخدم التاريخ لتحقيق أهداف معاصرة.

“‏إن الشعوب تحتاج للمعرفة حول من أين جاء أسلافها، ‏وماذا فعلوا، ‏وما قصتهم، ‏ولقد أصبحت السينما في العصر الحديث وسيلة يتم بواسطتها تقديم القصة، ‏وتعريف الجمهور بالعالم وكيف تطور، ‏لكنها تقدم الأحداث التاريخية برؤية المؤلفين والمخرجين لتحقيق أهداف شركات الإنتاج ‏السينمائي وطبقا لأجندتها” روزنستين.

‏الفيلم ليس تصويرا للتاريخ

تقول ماري ماكارثي ‏إن الفيلم ابتعد عن ‏واقع الحروب الصليبية، ‏وأحداثها التاريخية، ‏وإن تصويره للشخصيات (ريتشارد- كونراد-‏ صلاح الدين- بيرنجاريا) ‏لا علاقة له ‏بحقائق التاريخ، ‏ولذلك فإن الفيلم لا يصلح أن يكون مصدرا للمعرفة التاريخية، ولا يقدم معلومات حقيقية عن أحداث الحروب الصليبية.

‏ومن أهم الأحداث التي تم اختراعها في الفيلم قصة الحب بين صلاح الدين وأميرة صليبية ‏والهدف من تلك القصة هو مطالبة العرب بتقبل وجود ‏إسرائيل والسلام معها، وتشويه صورة صلاح الدين. ‏لذلك فإن دراسة أفلام الحروب الصليبية يجب أن تتم في ضوء ‏فهم الأحداث المعاصرة، ‏ومتطلبات المرحلة التي يتم فيها إنتاج هذه الأفلام، ‏والأهداف السياسية والثقافية التي يعمل لتحقيقها.

‏إن أفلام الحروب الصليبية لا تصور الماضي، ‏ولكنها تساهم في حرب ‏الصور والكلمات، ‏وتشكيل الرأي العام، ‏وإثارة مشاعر الجمهور، والتلاعب باتجاهاته.
‏تقول ماري ماكارثي “‏لا توجد معلومات دقيقة حول الحروب الصليبية في هذا الفيلم الذي يشكل نموذجا لاستخدام التاريخ في التأثير على الجماهير، ‏وتحقيق أهداف سياسية.. ‏إنه إساءة لتقديم التاريخ”.

‏في مملكة السماء

أما فيلم “مملكة السماء” الذي تم إنتاجه عام 2005 فإنه يشكل نموذجا جديدا يوضح عملية استخدام التاريخ في تحقيق الأهداف السياسية، ‏كما يوضح عدم الالتزام بالحقائق التاريخية في بناء قصة الفيلم، ‏وتفسير الأحداث باستخدام مفاهيم حديثة لم تكن موجودة في تلك الفترة.

“مملكة السماء” ‏كإنتاج حديث للتاريخ‏ي

وقد عبّر فيلم “مملكة السماء” عن أفكار القرن الـ21، ‏ويستخدم أحداث الحروب الصليبية لتصويرها. ‏فقد بدأ العمل لإنتاج هذا الفيلم قبل سنوات قليلة من أحداث ‏11 سبتمبر/أيلول، وتم استخدام أحداث الفيلم لتصوير الصراع بين الغرب والشرق الأوسط، ‏وفي الوقت الذي يعمل فيه لتسلية الجمهور استخدم الرموز التي تثير مشاعرهم، ‏وتتلاعب باتجاهاتهم، ‏وهو ما يؤكد أن شركات الإنتاج لا تقدم أفلاما بهدف تحقيق تسلية الجمهور فقط.

تقول ماري ماكارثي “‏إن الأفلام لا يتم إنتاجها لتحقيق أغراض علمية، ‏ولا يتم إنتاجها لتحقيق التسلية، ‏ولكن يتم فيها تفسير التاريخ وتقديمه بطريقة جذابة ومؤثرة، ‏ومن المؤكد أن شركات الإنتاج لا تهتم بتحقيق الدقة، ‏ولا تلتزم بالأمانة في عرض الأحداث التاريخية.

ويقدم “مملكة السماء” للجمهور مزيجا ‏من الخيال والحقائق التاريخية لتحقيق أهداف سياسية، إنه يقدم نوعا جديدا من التاريخ، كما يقول روزنستين، ‏أو التاريخ في الخيال.وإن ‏الجمهور في معظم الأحيان يتعرف على الأحداث التاريخية من خلال الأفلام السينمائية، ‏وتشكل الرموز -التي تستخدم في هذه الأفلام- وعيه واتجاهاته نحو أحداث التاريخ والحاضر، كما تشكل في ذهنه صور الشعوب والأديان والثقافات. ‏وهكذا تخلط شركات الإنتاج السينمائي الحقائق بالدعاية، ‏وفي الكثير من الأحيان تكون تلك الدعاية خفية أو غير مباشرة.

وبالعودة لأفلام الحروب الصليبية، فكما هو واضح أنها تستخدم الأساليب السينمائية في إثارة مشاعر الجماهير، ‏واستخدام الرموز في تشكيل اتجاهاتها. واستخدمتها في التأثير بشكل ما في إدارة صراع الحضارات الجاري في العصر الحديث، ‏وتحقيق أهداف الاستعمار الغربي الثقافي، ‏بالإضافة إلى زيادة تأييد الجماهير الغربية لإسرائيل، ‏باعتبار أن إنشاءها في فلسطين يشكل ثأرا ‏من العرب لهزيمة ‏الصليبيين.

‏ ‏انتهاك حق الجمهور في المعرفة

‏لكن هل يشكل ذلك انتهاكا لحق الجمهور في المعرفة؟ يقول روزنستين “‏إن الشعوب تحتاج للمعرفة حول من أين جاء أسلافها، ‏وماذا فعلوا، ‏وما قصتهم، ‏ولقد أصبحت السينما في العصر الحديث وسيلة يتم بواسطتها تقديم القصة، ‏وتعريف الجمهور بالعالم وكيف تطور، ‏لكنها تقدم الأحداث التاريخية برؤية المؤلفين والمخرجين لتحقيق أهداف شركات الإنتاج ‏السينمائي وطبقا لأجندتها”.

‏ومن المؤكد أن أجندة هوليود ‏تحددها أجهزة المخابرات الأميركية والغربية، ‏وتستند إلى تراث المستشرقين في بناء صورة العرب والمسلمين، ‏وإن هذه الأجهزة ‏تستخدم أفلام الحروب الصليبية في صراع الحضارات.

‏معايير مختلفة

‏إن المعايير التي يستخدمها الباحثون والعلماء في دراسة الأحداث التاريخية وتفسيرها تختلف عن تلك التي تستخدمها شركات الإنتاج السينمائي.
‏وأفلام الحروب الصليبية التي تم إنتاجها في الغرب لا تستهدف تقديم المعرفة للجماهير والالتزام بالحقائق، ‏ولكنها تقدم رؤية جديدة لهذه الأحداث تستهدف التلاعب باتجاهات الجماهير.

‏لكن ذلك يمكن أن يثير سؤالا جديدا يمكن أن يساهم بشكل كبير في بناء مستقبل العلاقات الدولية، وهو هل ‏التزمت الكتب التاريخية التي تم إنتاجها للتوزيع الجماهيري، ‏أو التدريس في المدارس والجامعات بالحقائق التاريخية عن الحروب الصليبية؟ ‏أم أن الأمر لا يختلف كثيرا عن أفلام السينما التي تم إنتاجها لتحقيق الأهداف السياسية وإدارة صراع الحضارات؟

‏من المؤكد أن الغرب يقوم بإخفاء الكثير من الحقائق التاريخية عن الحروب الصليبية، ‏مثل المذابح التي ‏ارتكبها الصليبيون في القدس، وبالتالي ‏فإن القضية أكبر من إصدار حكم بإدانة شركات السينما، ‏‏واتهامها بتضليل الجماهير ‏والتلاعب باتجاهاته. فالباحثون ‏في مجال التاريخ والعلماء يتحملون أيضا مسؤولية إخفاء الحقائق، ‏والتحيز ‏لوجهة النظر الغربية. ‏وهذا لا يختلف عما فعلته شركات السينما.

‏إن الجماهير قد حُرمت من حقها في معرفة الحروب الصليبية، ‏وهي تجربة مهمة في تاريخ الإنسانية، وشارك الأدباء وعلماء التاريخ والباحثون مع شركات الإنتاج السينمائي في عملية تضليل للجماهير، ‏وتشكيل صور نمطية للشعوب، ‏وإثارة العداء والكراهية.

‏لكن السينما كانت هي الوسيلة الأكثر تأثيرا، ‏والتي تحصل منها الشعوب الغربية على المعرفة التاريخية.

 

مقالات ذات صلة