إيران… الاستكبار على شعب “غير ذي صلة”

محمود الريماوي

حرير- في مواكبة الانتفاضة الإيرانية الشاملة التي تعمّ بلاد فارس من أقصاها إلى أقصاها، منذ نحو ثلاثة أسابيع، من المفيد الالتفات قليلا إلى الوراء، حيث تشكّل النظام الجمهوري الإسلامي على نحوٍ يسدّ المنافذ أمام أي مشاركة سياسية، وأمام أية فرصة لتطوير النظام أو إصلاحه من داخله، ففي بواكير نشوء الجمهورية الإسلامية في إيران، رفع النظام في طهران بين شعارات كثيرة شعار “الصمود في وجه قوى الاستكبار العالمي”، وذلك في إشارة إلى الغرب عموما، وذلك من أجل شحذ عزيمة الجمهور وتوجيهها نحو عدو خارجي، غير أن هذا الجمهور سرعان ما أدرك أن النظام الجمهوري، الفريد في بلاده، والذي خلف النظام الإمبراطوري، ليس أقلّ استكباراً على شعبه من أية أطراف خارجية، إذ سارع هذا النظام إلى تركيز السلطة بأيدي رجال الدين، وتصفية شركاء الثورة ماديا ومعنويا، وأقام نظاما يعيد إنتاج النظام السابق، ولكن مع صبغة دينية مذهبية، يسهل فيها استخدام العقيدة للاستئثار بالحكم، وتحريم المعارضة والنقد، على النحو الذي كانت تمارسه أجهزة نظام الشاه. وتم الاندفاع إلى الحرب مع العراق، بمثل ما كان نظام صدّام حسين مندفعا إليها وأكثر، وهو ما كان نظام الشاه يتفاداه، رغم سيئات ذلك النظام. ولم تتم الموافقة على إنهاء الحرب المدمّرة الطويلة، إلا على مضض شديد، حيث ذكر الخميني في حينه أن ذلك القرار بطيّ صفحة الحرب كان أشبه بتجرّع السم.

بعدئذٍ، اندفع النظام ومؤسساته الدينية والعسكرية الى إطلاق شعار تصدير الثورة، وبدا أن ثورة العام 1979 لن تتوقف، رغم تقويض النظام السابق وحلول قيادة جديدة حاكمة، تأبى أية مشاركة لقوى مدنية، لدرجة أنه تم إقصاء أول رئيس للجمهورية وهو أبو الحسن بني صدر بجريرة أنه ذو قماشة مدنية، وذلك مع إعلاء شأن كل ما هو عسكري: الباسيج والحرس الثوري، وأصحاب المراتب الدينية ممن تشكّلت منهم مجالس خبراء وتشخيص لمصلحة النظام، إضافة إلى من جرى التحالف معهم من نخبة البازار. وقد استقر الحكم على سماح شكلي بالتعدّدية الحزبية والسياسية والإعلامية، مع ترسانةٍ هائلة من التقييدات وفلترة قوى المجتمع ورموزه من أجل إقصاء كل صاحب رأي مستقل. وهكذا جرت وتجري الانتخابات البرلمانية والرئاسية، إذ يتم ابتداء إقصاء أي مترشّح لا ينال الرضى، فيما استقرّت المؤسسات الدستورية على تنصيب المرشد قائدا أعلى للقوات المسلحة، ويتولى الإشراف على السياستين، الخارجية والدفاعية، وعلى السلك القضائي، وعلى أجهزة الشرطة، وعلى وسائل الإعلام، بما يجعله، عمليا وبصلاحيات واسعة، رئيسا أعلى للجمهورية، مقابل رئيس الجمهورية المنتخب ومحدود الصلاحيات. وهذه صيغة فريدة لمؤسسات الحكم العليا، وعلى نحو يضمن تجويف الديمقراطية، ويجعل منها هكيلاً خاوياً.

وتشير وقائع الحياة في الجمهورية الإسلامية إلى أن الانتفاضة العارمة الحالية سبقتها جهود إصلاحية، كما كان الحال مع الرئيس محمد خاتمي الذي فاز في انتخابات العام 1997، غير أنه جرى تطويق موقع رئاسة الجمهورية في عهده، إذ فاز بثقة الناخبين لولايتين وحتى العام 2005، فقد جرى إغلاق صحف ومنابر إصلاحية ومستقلة بأوامر عليا، والتنكيل بشخصيات مستقلة وإصلاحية، من أجل تكريس القناعة بأن الإصلاح ممنوع، وأن وصول رجل إصلاحي إلى سدّة رئاسة الجمهورية لن يغيّر في أحوال البلاد شيئا.

وفي العام 2009 انطلقت احتجاجات واسعة ضد ما عرف بتزوير الانتخابات الرئاسية وتفويز محمود أحمدي نجاد برئاسة الجمهورية، وذلك دعمًا لمرشّحَي المعارضة مير حسين موسوي ومهدي كروبي. وكالعادة، جرت مواجهة الاحتجاجات بإطلاق الرصاص الحيّ على المتظاهرين، وقد تواصلت الاحتجاجات زهاء ثمانية شهور حتى بدايات العام 2010، وأدّت إلى مقتل عشرات من المحتجين، وزجّ مئات وراء القضبان مع وضع المترشحيْن موسوي وكروبي قيد الإقامة الجبرية، وما زالا تحت هذا القيد، وهو ما لم يمنع موسوي من ملاقاة الاحتجاجات العارمة أخيرا، إذ دعا زعيم “الحركة الخضراء” القوات المسلحة إلى الوقوف بجانب “الحقيقة والشعب”، وقال في بيان مسرّب إنه “لا يحق لأحد أن يقف ضد الشعب وينفذ الأوامر بشكل أعمى”.

وشيئاً فشيئاً وأكثر فأكثر، اكتسب النظام خبرة قمعية واسعة، وتركزت عقيدة القمع عبر شيطنة أية احتجاجات، واعتبارها مؤامرة يحرّكها الأعداء في الخارج، وهو ما وقع منذ العام 2017 إزاء موجات متتالية من الاحتجاجات، مع الامتناع التام عن إطلاق أية مبادرة للمراجعة أو الإصلاح، أو التجسير مع الإصلاحيين والمستقلين بأية صورة وأية صيغة، وهو ما تعرفه الانتفاضة الحالية التي تتميّز بشمولها سائر المناطق والأعراق وبمشاركة واسعة من الطبقة الوسطى من المهنيين والموظفين إلى طلاب الجامعات والمدارس، مع مشاركة لافتة وشجاعة للنساء اللواتي رأين في مصرع الشابّة مهسا أميني على يد شرطة أخلاق النظام نموذجا مكثّفا للقمع الدموي، وحيث يندرج فرض ارتداء الحجاب ضمن سياق فرض الرأي الواحد، وإلزام الجمهور بالطاعة الدائمة والانصياع الأبدي. وقد رأى جمهور النساء كم ذهب النظام بعيدا في استضعافهن، وفي سلبهن الحقوق السياسية جنبا إلى جنب مع فرض نمط حياةٍ عليهن.

وقد كشفت الاحتجاجات أخيرا كم أن النظام يستكبر على شعبه، إلى درجة أنه يعتبره غير ذي صلة باختيار نمط حياته وتقرير مصيره، ولا يتوانى عن استضعاف الأقليات، إذ لم يكتف بقتل الشابة الكردية أميني، بل ذهب إلى قمع الاحجاجات في مناطق كردستان غرب البلاد، وانتقل من ذلك إلى ضرب قواعد لأكراد إيرانيين في شمال العراق، زاعما، هذه المرّة، أن الاحتجاجات حرّكتها قوى انفصالية (كردية)، علما أن الاحتجاجات شملت أنحاء إيران كافة، بما في ذلك مدينتا قم ومشهد اللتان لطالما اعتبرتا بيئة اجتماعية للنظام ومن ركائزه الثابتة.

وقد انتقل الاستكبار إلى مناطق بلوشستان، حيث تقيم أقلية عربية، حيث جرت مطاردة المصلّين بعد خروجهم من المساجد وإطلاق الرصاص عليهم قبل الولوج إلى منازلهم. ولطالما نكّل النظام بأبناء تلك المنطقة المهمّشة مرّة باستهداف العرب، الشيعة منهم باعتبارهم عرباً، ومرّة باستهداف العرب السنّة باعتبارهم من أهل السنّة، غير أن دائرة الاستضعاف، للحق، باتت تشمل سائر الإيرانيين وبخاصة قوى الشبيبة من الجنسين، بمن فيهم طلبة 48 جامعة ومئات المدارس الثانوية، مع استهداف القوى المتنورة والمستقلة من شرائح الطبقة الوسطى، إذ يشكل هؤلاء معا الخميرة الحيّة لتقدّم المجتمعات، وذلك هو الدرس الذي يهبه النظام للطغاة باستهداف زهرة المجتمع، والشرائح التي تتفاعل مع العالم الخارجي، عبر الوسائط الحديثة، إذ ليس من سبيل لإدامة القهر والإثرة واحتكار السلطة سوى بالإجهاز على مظاهر الحياة، وفي مقدّمها الثروة البشرية.

مقالات ذات صلة