ضد ثقافة السير بجوار الحائط

نجلاء محفوظ

حرير- تعد الثقافة المخزون التراكمي للفرد وللمجتمعات، والتي “تشكل” معتقداته وتصرّفاته، وإن لم ينتبه “لفلترتها” فستقود عمره؛ وقد “تُلقيه” بعيداً عما يرغب ويستحق.

من الثقافة السائدة، مع الأسف، تجسيد المثل؛ “امش بجوار الحيط واطلب السترة”.. يتوهم السائر بجوار الحائط أنه “يحمي” نفسه، والمؤكّد أنه يصنع بيديه “حوائط” كثيرة تمنعه من اكتشاف كنوزه الخاصة؛ ولا أحد يولد بلا كنوز، فالجميع يمتلكها، وأقل القليل من “يناضلون” لمنع وأدها تحت ركام الحوائط التي يسير بعضهم بجوارها، أو التي “يسمح” للمجتمع بفرضها عليه. وكما يُقال: “من هانت عليه نفسه فهو على غيره أهون”؛ فكيف يتوقّع أن يتعامل معه الناس، وهو يسير جوار الحائط؟

تتعدّى ثقافة السير بجوار الحائط تجنّب الحديث عن الأمور السياسية أو المواضيع الشائكة، أياً كان نوعها، وتتعدّد وتتسع وتتوغل وتتغول، لتشمل الامتناع عن إبداء الرأي، بصراحة وبأمانة وبالشجاعة في العمل، ولو كانت من أجل تحسينه والارتقاء به ورفض المثل البغيض؛ “اربط الحمار مطرح ما يقول صاحبه”.

نرفض الكلمة الكريهة؛ “أهي عيشة والسلام”؛ وكأن لدينا مئات الحيوات فلا بأس بوأد أنفسنا في حياة منها!.. يحرم السير بجوار الحائط صاحبه من تنفّس احترام الذات “والطيران” فرحاً بانتصاراته الصغيرة في الحياة “وغزل” انتصارات أكبر بثواني عمره وسنواته، ويجعله دوماً يشعر بالضآلة، وإن تظاهر بغير ذلك؛ وهو ما نراه واضحاً في تعالي بعضهم، وفي التزلف والتقرب لذوي النفوذ، وفي افتعال بعض المعارك غير المبرّرة، والتي “يضمن” فيها السائر بجوار الحائط أنه سينال من غريمه؛ لأنه ببساطة أقل منه وأكثر خوفاً من الحياة أيضاً.

يحثنا كثيرون على السير جوار الحائط ويردّدون مزاعم أن من سبقونا في الحياة يعلمون أفضل منا؛ وهذا صحيحٌ، إذا اقتصر على علمهم ما يفيد زمانهم وأيامهم وليس زماننا، ونذكّرهم بقول المعرّي: وإني وإن كنت الأخير زمانه/ لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل. ولو لم “يثق” بما قاله لما حقّق مكانته أبداً؛ مع التأكيد على أهمية الاستفادة من تجارب السابقين، وليس الخضوع لها.

يتعمّد بعضهم “إخافتنا” من عواقب القفز خارج القوالب الجاهزة للحياة، ويكادون “يلصقوننا” بالحائط، أو يلقون بنا داخله طلباً للأمان “التام”؛ ولا يوجد أمان تام بالحياة والمخاطر التي “تنتهك” أعمارنا في وأد عقولنا، والسير معصوبي الأعين وراء غيرنا، تعرّضنا “للسقوط” وللأذى النفسي والتراجع العقلي الحتمي، وزرع الشعور بعدم الجدارة داخل العقول والقلوب وتترجم عنه الانبهار الزائد بالغرب وبالمشاهير، ولو كانوا يفعلون كل ما نرفضه في أعماقنا، ومحاولة التشبّه بهم والتخلي عما يميزنا، وفي ذلك أسوأ وأقسى خيانة للنفس.

يبالغ بعضهم بالسير جوار الحائط؛ فيبني لنفسه حوائط كثيرة “يختبئ” فيها مما قد يعرّضه لأي خطر، ويتجاهل أنه يحرم نفسه من الحياة نفسها؛ فمن قال إن الحياة تعني فقط التحرّك والدراسة والعمل وتناول الطعام والشراب والزواج والإنجاب ثم الموت بلا أي تحقيق سوي وحقيقي للذات؛ وكأنه مثل جنديٍ ترك المعركة الحقيقية، “واكتفى” بمشاهدتها وهو يرتدي بذلة الجندية؛ وفي كل مرحلةٍ من مشاهدته لقتال الآخرين “يضيف” لنفسه وساماً أو نيشاناً!

يزرع بعضُهم الحائط داخله، ويجعله يقود عمره ويحافظ عليه كأغلى ما يملك، وقد يقاتل بشراسةٍ كل من يحاول إبعاده منها ويعتبره عدوه “الأوحد” في الحياة. يسير بجوار الحائط من يفتش عن رضى الآخرين، ليس في عمله أو في أسرته فقط، ولكن أيضاً في مظهره وطريقة كلامه؛ ليكون نسخة باهتة ومكرّرة من غيره، ويتناسى أنه نسخة “فريدة” لن تتكرّر كعمره الذي لن يحظى بغيره أبداً.

نستطيع تجاوز الحوائط، وصنع ما نريد بأقل قدر من المشكلات بالتحلّي بالحكمة، ومنع تصعيد المشكلات وحرمان من يريدون “استدراجنا” لها من الفرح بخضوعنا لإرادتهم. يختبئ بعضهم بجوار الحائط تجنباً للانتقادات، أو أن “يبدو” كأحمق؛ فيضيق حياته ويعيش في “حفرة”؛ خوفاً من الخطأ وتطبيقاً للقول الشائع “اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفهوش”، وأحياناً حتى لا يدفعوا ثمن أخطائهم بالعمل أو باختيار شركاء الحياة، ويحرمون أنفسَهم من اكتشاف أفضل الطرق التي تناسبهم ويسيرون وراء القطيع، ونهديهم قول الرائع نجيب محفوظ “الضعيف هو الغبي الذي لا يعرف سرّ قوته”.

يستغرق بعضهم في أحلام اليقظة وبالعنترية في وسائل التواصل “لتعويض” ذواتهم عن السير بجوار الحائط في الواقع ويزيدون الحوائط ويضاعفون “صعوبة” الانسلاخ عنها، ويتناسون أن الحياة تمنح الكثير للأقوياء “فقط” الذين يختارون المواجهة بثبات، وتُلقي “بالفتات” للسائرين بجوار الحائط ويظلون في “احتياج” ولهاث نفسي ما عاشوا.

يبرّر بعضهم السير جوار الحائط بالوراثة، ويمكن قبوله عند الصغار فقط. قلت يوماً لشابٍّ كان يشكو بمرارةٍ من ميراثه السيئ من أسرته وكيف يؤثر عليه وقد جاوز الثلاثين، فسألته: هل كانوا يجبرونك على تناول طعامٍ معين؛ فاستغرب أولاً ثم ذكره بصوت عالٍ ووصفه “باللعين”؛ قلت: هل تتناوله حالياً؟ رد بسرعة: منذ سنوات طويلة لم أتذوّقه، ولا أوجد في مكان يقدّمونه فيه وأنسحب فوراً. قلت: بإمكانك فعل ذلك مع ميراثك السيئ من أسرتك فقط “إن” أردت التوقف عن العيش في إطار الضحية والمفعول به، وأن تعزّ نفسك وتصبح الفاعل “والمؤثّر” الأكبر في صنع حياتك؛ وألا تجعل ميراثك الشمّاعة التي تبرّر بها خوفك من الحياة، وتذكّر مروض الأسود الشهير الذي شعر يوماً واحداً بالخوف من الأسد؛ فالتهمه أمام الجمهور!

المؤسف اتباع المثل السيئ والمنتشر بضراوة في مجتمعاتنا العربية؛ “من خاف سلم”، وكما قال نجيب محفوظ: “الخوف لا يمنع من الموت ولكن يمنع من الحياة”. نحترم الحقّ الإنساني في طلب السلامة ورفض إيذاء النفس؛ والمشكلة أن “الخضوع” لهذا المثل البشع في العمل مثلاً قد يحمي صاحبه مؤقتاً من بعض المشكلات التي قد يتسبّب بها اندفاعه بالتصريح عما لا يعجبه في أسلوب العمل، ولكنه على المدى البعيد يجهض أية محاولات منه لتطوير نفسه ومضاعفة إمكاناته؛ وهي إن لم تزد ستتضاءل، ولو بعد حين.

يمتد الخوف والسير بجوار الحائط في العلاقات الأسرية وفي الزواج؛ وقد يعتقد كثيرون أن هذا ينطبق على الزوجات فقط، وأن بعضهن يسرن جوار الحائط، خوفاً من الطلاق أو من المشكلات مع الأزواج؛ ورصدنا في الواقع عدداً غير قليل من الأزواج “اختاروا” بكامل إرادتهم السير بجوار الحائط، وترك الزوجات ينفردن بالقرارات المهمة وإن لم يوافقوا عليها؛ طلباً للراحة، وكما يقال “تكبير الدماغ”، ويدفع الجميع بالزواج ثمن السير وراء الحائط؛ فتنفجر “فجأة” البراكين الناتجة عن الغضب المكبوت طوال أشهر أو سنوات، وإلا أين ستذهب نيران الغضب، بعد كل إقناع النفس بالتجاهل والسير وراء الحائط يتم دفنها حية وتتراكم لتنفجر وتدمر ما تصل إليها؟

السائر بجوار الحائط يصنع “غوله” بيديه، ليلتهمه بعد أن يمزّقه “ولا” يأبه لتوجعه، ولا يقرّر أبداً طعنه والخلاص منه، ويستسلم له بمازوخية غير مبرّرة، ويظلم نفسه بحياة باهتة ضئيلة تؤلمه؛ فكما قال نيتشه “الأجفان المرتعشة لا تستطيع رؤية السماء البعيدة”.

مقالات ذات صلة