جمهور المضربين والاستجابة الحكومية في الأردن

مهند مبيضين

حرير- في تطور الأزمة الحكومية والشعبية في الأردن، لم يقبل قطاع النقل وممثلوه من المتوقفين عن العمل البيان المشترك الصادر عن الحكومة ومجلس النواب، لحل أزمة الإضراب الذي تتعاظم تأثيراته ووقعه على الاقتصاد الكلي للدولة، وعلى المواطنين المتضرّرين من توقف خدمات النقل.

الأزمة متراكمة في موضوع المحروقات، وفي مشكل قطاع النقل، وفي الأبعاد الاجتماعية لقرارات الرفع في أسعار المحروقات، خصوصا مع بداية فصل الشتاء، ونتيجة للضغط الشعبي الذي شكّله إضراب العاملين في قطاع النقل. وبسبب تدخل أطراف عديدة، قدمت الحكومة بعض التنازلات، استجابة لمطالب المحتجّين، حيث أعلنت استجابتها ‏المباشرة لمطالب نقابة أصحاب السيارات الشاحنة ‏بزيادة أجور شحن الحاويات لتصبح 500 دينار بدلاً من 448 ديناراً للطن لغاية وزن ‏‏25 طناً للحاوية على خط طريق عمّان – العقبة.

‏وأمام اللجنة النيابية المكلفة بالمتابعة، أقرّت الحكومة بوجوب تشكيل لجنة مشتركة لتنظيم عملية ‏الدور لشحن البضائع خلال شهر، واعتماد مكتب صرف موحّد للحاويات ومعالجة موضوعات ‏القبّان واعتماد الحمولة المحورية وإمكانية السماح بزيادة الحمولة واتخاذ القرار المناسب‏ بشأنها.‏ وبالنسبة للعمر التشغيلي للشاحنات، بيّن أعضاء اللجنة النيابية أن الحكومة طلبت من السعودية رفع العمر التشغيلي للشاحنات من خمس سنوات إلى ثمان للعبور بالترانزيت، وما زال هذا الطلب الأردني بانتظار موافقة الجار السعودي.

‏هذا من جهة عمل الحكومة لصالح مالكي شاحنات النقل، الذين يُشكّل إضرابهم تهديدا للاقتصاد ونقل البضائع، وربما المساهمة السلبية بإغلاق ميناء الحاويات في العقبة. وعلى صعيد نقل الركاب، فكثيرون من الموظفين وطلاب الجامعات خسروا مواعيدهم وامتحاناتهم واضطرّت بعض الجامعات في جنوب الأردن لتحويل حضور الطلبة إلى “تعليمٍ عن بعد”، ما يعني أن البدائل قد تكون موجودة لتعويض الحضور إلى الجامعات، ولكن هذا لن يكون حلاً وعلاجا للأسباب العميقة للأزمة، ولعل هذا ما استدعى من وزير التعليم العالي، عزمي محافظة، التعميم على الجامعات والكليات الجامعية بمراعاة ظروف طلاب إقليم الجنوب في مسألة الحضور الوجاهي للمحاضرات وقبول غيابهم بعذر. وفيما يتعلق بمطالب الناس بعدم رفع أسعار المحروقات للتدفئة، قرّرت الحكومة تثبيت سعر وقود الكاز خلال ‏فصل الشتاء، ملتزمة بعدم رفع أسعاره حتى إذا ارتفعت عالمياً، إضافة إلى عكس ‏أي انخفاض على أسعار المشتقات النفطية في حال استمرار انخفاضها بالوتيرة الحالية ‏عالمياً على المشتقات النفطية كافة.‏

حدث هذا كله من جهة الحكومة، في ظلّ تمترس قطاع واسع من المتوقفين عن العمل عند مقولة “أن هذا لا يكفي”، وأن هناك مطالب أغفلتها الحكومة ووضعتها في الأدراج، وأن الوزراء يتحاورون مع المحتجين من دون أن يملكوا الحلول، وهذا انعكس على تفاقم الغضب واتساع رقعة الإضراب. وبهذا، تتحسّب الحكومة من اتساع الاحتجاج الشعبي، والفاعل الاجتماعي فيه، والذي أعلنت عنه جملة مظاهر في الأطراف والقرى وفي إغلاق بعض الشوارع، ما يعني أنّ المسألة تخطّت العاملين في قطاع النقل إلى شرائح أخرى قد تجد أن الفرصة مواتية للتعبير عن غضبها على الحكومة والدعوة إلى رحيلها.

في مقابل اتساع التضامن الشعبي مع المضربين، وعودة المناطق الساخنة إلى الظهور، يبدو أن الحكومة الأردنية التي تُتّهم بتجاهل الحوار مع الناس، وفي حل معضلة الغضب واتساع فجوة الثقة بينها وبين المواطن، بعد تأكيدات من رئيسها بشر الخصاونة، قبل نحو أسبوعين، على أن حكومته هي الأكثر اتصالا وتواصلا مع المواطن في الميدان ومع الأطراف، باتت أمام اختبارٍ عنوانه أنّ البقاء هو في الحكمة والخروج بإدارة عقلانية للأزمة.

ومع أن التدابير الراهنة توحي بأن الطريق صعبة للبقاء، إلا أن كثيرين يرون أن الأرجح بقاء الحكومة التي تبدو مدعومة من كل دوائر القرار، ومن المؤسّسات العميقة، وتحظى بالدعم الملكي، خصوصا أنها أجرت تعديلاً في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لكنه لم يُغيّر كثيراً في صورتها، ولم يمنحها مضادّات حيوية في مواجهة الأزمات، كما لم يأتِ بفروق جوهرية على بنيتها. وفي الوقت نفسه، هل يعني رحيل حكومة بشر الخصاونه حلاً لمعضلة الاقتصاد الأردني؟ الجواب لا، فالأزمة ليست محليّة فقط، بل في شقّها الآخر إقليمية نتيجة حصار الأردن الاقتصادي منذ ما قبل أزمة كورونا، وفي ضياع العراق وفرص التعاون معه وإحكام إيران عليه، وجرّاء تفاقم أزمة اللجوء السوري وإغلاق الحدود مع سورية، والتحسّب من فتح الحدود مع سورية؛ بسبب حرب المخدّرات التي تشنها مليشيات إيرانية.

في ظلّ كل هذه الظرفية المعقدة، تحاول الحكومة أن تحافظ على معدل نمو اقتصادي، وعلى مواجهة التضخم الذي هو خطر كبير والجميع يحذّر منه، وطلبت من البنوك تأجيل اقتطاع الأقساط على القروض، وهو حل لا قيمة له عند المواطن، وتريد الحكومة أن لا تهتز صورتها أمام الملك، كما تريد الإبقاء على موارد ثابتة من ضرائب المحروقات، وأن لا تلجأ للاقتراض والتوسّع به.

ما معنى هذا كله؟ هناك أزمة حقيقية، أدّت إلى تدخل مجلس النواب بتقديم اقتراح للحكومة يقضي بمراجعة قراراتها، والمراجعة والقرارات لم تؤدِّ برأي المضربين إلى حلول مكتملة، وهي لم تعالج الأزمة في عمقها، والغضب الشعبي يزداد وتتّسع رقعته، ومن تطلب منه العودة عن موقفه يطلب ثمنا لذلك، والمضار على الاقتصاد والخدمات تتزايد. وفي المقابل، يزداد الفقر وتآكل الدخل، والصراع الاجتماعي في ازدياد، والنخب، والغاضبون الخارجون من رحم أجهزة الدولة، أكثر من الذين هم في الشارع. وفي المقابل، ليست الحكومة في أفضل ظروفها، وليست قادرة على التخلي عن موارد تعتبرها ثابتة في باب الإيرادات، وهي عملية معقدة، ويجب أن تكون البدائل في إيجاد نمو حقيقي في الاقتصاد وإيجاد مشاريع قادرة على تعويض التضخم وارتفاع الأسعار وتآكل الدخل.

في المحصلة، يحتاج الأردن حلولا موضوعية وبنّاءة في أزمات اقتصاده، ولا ينبغي ترك مسألة الإضراب باعتبارها أزمة عابرة ستُحل بجلوس وزراء معينين مع ممثلي قطاعات محتجّة وحسب، فثقافة الإضرابات تصعد وتتطوّر، وتكسب، منذ الإضراب الكبير الذي أطاح حكومة هاني الملقي، وتحوّل إلى احتجاجات الداور الرابع، وأطاحها في الخامس من يونيو/ حزيران 2018، ثم جاء إضراب المعلمين في ظلّ حكومة عمر الرزاز، والذي أزّمها وأسهم بشكل فاعل برحيلها في سبتمبر/ أيلول 2019. واليوم، يأتي إضراب العاملين في قطاع النقل مع حكومة بشر الخصاونه، الذي كان قريبا من صنع القرار وراقب ما حدث لأسلافه، وقد تحول الإضراب في بعض المناطق إلى اضطرابات واشتباك مع قوى الأمن وإغلاق طرق، وفي ظلّ تكوّن خبرات احتجاجية لدى المضربين، والتي قد تشكّل معضلة في المستقبل للحكومات؛ جرّاء ما يكتسبه ممثلو القطاعات والنقابات من حرفيةٍ في إدارة مواقفهم العامة الاحتجاجية ضد سياسات الحكومات، فإن كرة الاحتجاج مرشّحة للتزايد وحصد التأييد الشعبي.

وإذا ما غلّف الخطاب الاحتجاجي ببلاغة وطنية عند بعض المتحدّثين والمؤثرين، ممن يحرصون على إظهار الخوف على البلد ووجوب إنقاذه من سوء التخطيط، فهذا أمر لا توجد مقابله خبرة مضادّة متراكمة لدى وزراء الحكومات لتفكيكه والتعامل معه، أو حتى قدرة لدى بعض الوزراء من الممسكين ملفّ الاقتصاد في المواجهة والتحدّث مع الناس، وهم ليسوا إلا خبراء في التعامل مع المؤسّسات الدولية على القروض والسياسات المالية، ودرسوا في الغرب غالباً. ومع الكفاءة التي يتمتعون بها وظيفيا وعمليا، إلا أنه ليس المطلوب منهم التحول إلى خطباء وأهل بلاغة، لكن المهم أن تكون دراسات الأثر لقراراتهم وتوقيتها حاضرة، بقدر وعيهم مخاطر عدم اتخاذ القرارات من ناحية مالية.

مقالات ذات صلة