الرياضة عندما تصنع الفرق

سميرة المسالمة

حرير- مرّت قطر إلى أسبوعها الأخير من تنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم، في تجربةٍ عربيةٍ وإسلامية هي الأولى من نوعها، ليس على المستوى الرياضي فحسب، بل أيضاً على مستويات عدة، وإنْ تنبع أهميتها دولياً من مكانة البطولة رياضياً، والذي كان يفترض أن يكون هو المجال المتنافس عليه وفيه، وأن تعمل الدول المشاركة على دعم فرقها وتعزيز ثقتها بهم متنافسين على لقب البطولة، في أجواء أثبتت فيها الدولة المضيفة انفتاحها وترحيبها بمختلف جنسيات المشجّعين وأهوائهم، إلّا أنّ بعض ما شهدناه من حرب إعلامية في بعض الدول الأوروبية للتقليل من حجم نجاحات التنظيم، بل وإبهاره، وقدرته على استقطاب ملايين المشجّعين والمشاهدين عبر العالم، يشي بأن ادّعاءات حيادية الإعلام الغربي ومهنيته محدودة الزمان والمكان والموضوع، بحيث لا تتجاوز مصالح القائمين عليه وقضاياهم.

يمكن القول إن ربط نمو الحركات المتطرّفة الأوروبية على مستوى محلي – داخلي هو محاولة من تلك الأحزاب اليمينية للسيطرة على حكم بلادها من جديد، واستعادة انغلاق مجتمعاتهم على قومياتهم وأعراقهم، مع موجة الإعلام المعادي لتنظيم بطولة عالمية وفق معايير ثقافة عربية، مبالغة في حجم تلك الحملات وتأثيراتها أوروبياً، لكنّ هذا حتماً ليس بعيداً عن ربط تلك الادعاءات والافتراءات على البطولة، مع وجود بيئة حاضنة تستعيد من حيث “تعي” مع إعلامها العداء للشعوب العربية وثقافتهم بكامل تنوعاتها، والحط من مكانتها وقدراتها وكفاءتها في كلّ المجالات الحياتية.

لا يعني ما تقدّم أنّنا أمام موجة كبيرة من مؤيدي الفكر اليميني المتطرّف في بعض دول أوروبا، لكن نفاذه إلى وسائل الإعلام، وحتى إلى بعض الدروس التعليمية، لحرف قضيةٍ رياضيةٍ، واعتبار تنظيم البطولة في توقيت شتوي يضرّ بالأندية ونشاطاتها، أي العزف على وتر حسّاس للمواطنين الأوروبيين المصطفّين خلف أنديتهم، وتحويل الأنظار إلى قضايا سياسية، كان يفترض الخوض فيها ضمن مجالات عملٍ مختلفة، منها الاقتصادية مثلاً، يؤكّد أنّ الحملة كانت تستهدف استقطاباً شعبياً لبذور يمينية تحتاج سقايتها ودعمها شعبياً، وأسهل وسائلها التحريض ضد مجتمعاتٍ تحمل ثقافة لا تتوافق كل تفاصيلها مع توجّهات المجتمعات الغربية.

لا يمكن فصل ما يحدث اليوم في أوروبا من أحداث مؤسفة لصعود حركات يمينيّة، واستخدامها العنف وسيلة لفرض وجودها، أو حتى التعريف بهذا الوجود، بهدف فتح المجال لرؤوس مطمورة بالإعلان عن نفسها، والاجتماع حول هدفها، عن حملات العداء للمهاجرين ومحاولات عزلهم، ومنها إقصاؤهم إلى رواندا، حسب رغبة بعض الفاعلين في السياسات الأوروبية التي واجهها الاتحاد الأوروبي والأحزاب الديمقراطية بالرفض السياسي تارة، والأحكام القضائية القطعية تارة أخرى. لكن أيضاً لا يمكن النظر إلى محاولات بعض الوسائل الإعلامية لتغييب الحدث عن شعوبها، وتجاهل نجاح تنظيم دولة مسلمة بطولة رياضية عالمية، ومنها منابر إعلامية ألمانية وفرنسية ونمساوية، وغيرها، بعيداً عن حقيقة واضحة، أنّ الموقف المناهض لتنظيم البطولة هو خارج اعتبارات بيئية وسياسية وحقوقية، كما تبرّره تصريحات أحزاب أو مسؤولين أو فرق رياضية (المنتخب الألماني لكرة القدم)، لأنّ هذه التبريرات ذاتها غابت عند تنظيم دول أخرى سابقاً لهذه البطولة، وفيها ما يمكن ضبطه وملاحظته، ليس على مستوى محلي فقط، وإنما في مطامحها التوسّعية على حساب دول مستقلة، كما هو واقع الحال في الغزو الروسي لأوكرانيا.

غياب هذه الدوافع الإعلامية الرافضة للتعاطي مع الدول العربية تحت مبرّرات موضوع الحريات الجنسية إلى حقوق العمالة وغيرها، عند تنظيم زيارات رسمية من الدول ذاتها لأسباب اقتصادية وتعاقدات تجارية، ينفي عنها صفة الحيادية، ويحيل إلى أننا أمام مسار إعلامي انتفاعي يقبل بما يتوافق مع مصالحه الاقتصادية بالتغاضي عن ادعاءاته الحقوقية، بينما يستعيد الإعلام نفسه حربته وسيفه في الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان لممارسة فوقيته المجتمعية، عندما يتعلق الأمر ببطولة شعبية، أسهم تنظيمها في تطوير واقع الدولة المضيفة في كلّ المجالات، من الحقوقية إلى الخدمية، ما يفتح الشهية لشعوب المنطقة بأن تكون حصصهم في تنظيم هذه الدورات أكبر وأكثر تنوعاً.

مع أهمية أن يبقى المجتمع الدولي حامي شرعة حقوق الإنسان، ويعمل على تحسين شروط قبولها في المجتمعات جميعها، من الصين إلى الهند ومن المشرق إلى المغرب، فإنّ التعاطي مع تميمة حقوق الإنسان بشكلها “الانتقائي” لم يعد ينفع في تبرير حملات بعض الغرب على الثقافات المتنوعة، خصوصا الإسلامية منها، إذ تتغاضى بعض الدول مع الأحزاب اليمينية عن كل انتهاكات حقوق الإنسان في سورية وفلسطين، وفي دول أفريقية، وفي الصين وروسيا، وغيرها. وهي تحاول إظهار حرصها عليها في غير مكانها، وفي بطولةٍ أنجزت كثيراً من مهامها، وفي أولها فرحة شعبية عربية وعالمية بإنجازات فرق ناشئة ومتنوّعة كاليابان والسعودية، رغم خروجهما المبكر، وتميز الفريق المغربي الذي عزّز الحضور العربي ثقته، وحفزه، لتلك العطاءات المتتالية التي ما كان لهذا الحضور أن يكون لولا الاحتضان العربي للبطولة.

في الوقت الذي اعترفت فيه دول أوروبية بحجم التأثير الإيجابي على واقع الدولة المنظمة، عادت تلك الدول لتكتشف “سلبيات” الدولة المضيفة وثقافتها الإسلامية من أضيق أبواب الحريات التي لا تزال موضع جدل في دولها وبين شعوبها أيضاً، رغم الحملات الإعلانية الكبيرة والنوافذ القانونية الملزمة لترسيخها في مجتمعاتهم. إنّه الخيط الرفيع جداً الذي يفصل بين حملات العداء للمهاجرين من أصول إسلامية وحملات العداء لتنظيم البطولة ونجاح منظميها، فحين تنهض بالأولى الأحزاب اليمينية صراحة في خطاباتها يتولى بعض الإعلام الغربي مهاجمة الثقافة التي تحتضن البطولة العالمية لكرة القدم، وكأنّ التناغم بين اليمين والإعلام يعود إلى الدجاجة نفسها التي تنتج بيضاً يمكن تلوينه.

سيبقى هذا الشهر العربي بذرة تكبر جذورها وتنمو لتثمر، ربما مرّة أخرى في السعودية ومصر والإمارات والسودان وكامل الأقطار العربية، مع ما تحمله من رياح التغيير الإيجابي في كلّ مناحي الحياة، وصولاً إلى الاستثمار الحقيقي في الإنسان، وتطبيع الأنظمة مع حقوق مواطنيها فعلاً لا ادّعاء، لتحقيق مقولة الرياضة تصنع الفرق وتوحّد العالم من أجل السلام.

مقالات ذات صلة