الأردن: “ميرا” والأخلاق والسياسة

مهند مبيضين

حرير- لم يكن الأردن طوال مائة عام مرّت على قيام دولته بلدًا مغلقًا، ولم يعلن يوما أنه بلد ليبرالي أو علماني، كما أنه لم يتورّط برفع شعارات تقدمية كحال أنظمةٍ عربية انتهت إلى الاستبداد والقمع، بل ظلّ الأردن بلدًا مستنيرًا وسطيّاً لا مجال فيه للهيمنة على الناس وأذواقهم وخياراتهم في أي جهة، أو في أي صورة من الحياة.

أخيرا، سُحبت رواية “ميرا” للكاتب قاسم توفيق من مشروع معرض مكتبة الأسرة، الذي تديره وزارة الثقافة وتنفق عليه، لأسباب اتفق الشارع والنواب في لجنة التوجيه الوطني والوزارة على أن هذه الرواية لا يجوز نشرها ضمن هذا المشروع المموّل حكوميا، علماً أن الرواية نفسها غير ممنوعة في الأردن، وصدرت سابقا قبل ثلاث سنوات في دار نشر أردنية، وهي من الناحية الفنية لا تنطوي على قيمة شكلية فنية، وحبكتها وقصتها بسيطة مطروحه سابقا عند جمال أبو حمدان في “خيط الدم”، وهي تقزيم كبير لفكرة الطيب صالح في “موسم الهجرة إلى الشمال”، ولم تحلق في الشكل الفني، وهي ليست عالية.

أمام انتقادات كبيرة على أسلوب الرواية وتعابيرها، وبحجّة العبارات المسيئة للذوق العام، وأمام انتقادات من الشارع وبعض النواب وغيرهم، فاتح رئيس الحكومة بشر الخصاونة، في مجلس الوزراء وبحضور وزيرة الثقافة هيفاء النجار، بضرورة التدقيق في أمر المحتوى الثقافي الذي يُدعم وينشر. وهكذا سحبت الرواية التي لم تكن معروفه كثيرًا قبل نشرها. وفي مواجهة الهبّة الشعبية ضد الرواية ونقد سياسات النشر في المشروع، اعتذرت وزيرة الثقافة في مجلس النواب بشكل شجاع ولافت، وعبرت عن مسؤوليتها، وطلبت من لجنة الاختيار لمشروع مكتبة تقديم الاستقالة ومراقبة كل محتوى مشروع النشر الوطني في مكتبة الأسرة، وشكّلت لجنة لدراسة الكتب المنشورة وتقييمها وتنتظر التقرير.

عمليًا، نجحت الأخلاق العامة ورادار الذوق العام بإقصاء روايةٍ غير لائقة بعباراتها ووصفها ميرا ذات الأصل اليوغسلافي، زوجة رعد الذي يعاني من عجز جنسي، ومارست علاقة حب مع عازف موسيقى، وقدّمت الرواية وصفا دقيقا للممارسة الجنسية في تلك العلاقة، فأخرجت سلطة الذوق العام “ميرا” من قطار مكتبة الأسرة ومشروعها لهذا العام. وللأسف، لم تدافع لا الحكومة ولا الوزارة المعنية عن مشروع النشر كما يجب، وبأنه قد يحتمل الهفوات، بل اكتفوا بسحب الرواية، علمًا أن المشروع للعام الحالي يتضمّن منشوراتٍ مهمة إسلاميا وعربيا وإنسانيا، وقد تحمل هذه الأعمال وجهات نظر يختلف معها بعضهم.

وللأسف، لا تخاطب سلطة المنع، غير المعينة أيضا، والتي تنسب لنفسها أداوراً مختلفة، في مقدمتها حماية الذوق العام، الجهمور بعقلانية أيضا، فقد كان يجب أن يشيد النواب بمشروع الثقافة للجميع ومكتبة الأسرة الذي بات عنصر ثراء معرفي في الأردن، وهو مستمر، ويعتبر قصة نجاح، وتتألف لجنة المشروع من أساتذة جامعيين ومثقفين وناشطين وكتاب صحافيين وعدد ممن المعنيين في وزارة الثقافة. وقد نُشر ضمنه في العام الحالي كتابان لقدري طوقان ولمحمد أبو حسان، وفيهما بحوث عن الاجتهاد في الإسلام وأثر الحضارة العربية الإسلامية على الغرب، وهناك أيضا كتاب علي محافظة “الفكر العربي الحديث” وديوان شاعر الأردن مصطفى وهبي التل (عرار).

جوهر المسألة اليوم في بلد مثل الأردن، لطالما وصف بأنه حديث ومتقدّم علميًا، ليس في رواية غير ملائمة لكي تنشر في مشروع نشر وطني، ولا في المواصفات الفنية. بل في سلطان المنع وتعاظمه ومرجعياته في بلدٍ ينصّ دستورها على وجوب الحفاظ على القيم وأهمية الإسلام في مصادر تشريعاته، بل في قدرة المجتمع على الدفاع عن قيمه، وهو أمر حميد. وبالتالي، الاستجابة الحكومية لهبة فيسبوكية أو من قارئ ملتزم بقيم الدين أو قارئ ينبذ الأدب أمرٌ، وإنْ لا يبرّر أمر المنع، إلا أنه جيد وواقعي، ويعكس صورة عن طبيعة محافظة للمجتمع الاردني الذي فيه آراء ليبرالية أيضا تدعو إلى الانفتاح على الأدب مهما كان نوعه وترفض منع أي عمل.

الأردن من الدول السباقة في إشاعة خدمة الإنترنت، يتابع قطاع عريض فيه كل منصات الأفلام العالمية، ويُقبل طلاب في الجامعات فيه على مطالعة الروايات الأجنبية، ويشاركون بفاعلية في المناظرات العلمية العالمية. صحيح أن كثيرين فيه لم يسمعوا عن رواية “ميرا” إلا عند منعها، لكن الثابت أن المنع أعطاها فرصة للتداول وبشكل لافت.

لم يصدر عن الروائي قاسم توفيق موقف، ولكن كثيرين أشادوا به وبتجربته ودافعوا عنه. وعلى الطرف الآخر، لم تكن عند رافضي الرواية أي حجج شخصية أو فنية بشأن “ميرا” وعناصر اكتمالها الفني، بل كان الحكم على أسلوب وصفي رديء للجنس والحب بشكل كان يمكن الاستعاضة عنه بلغة راقية تحترم الذوق العام وتحميه من السقوط في غواية النص المفتوح، والمهم أن الرواية لا تحمل عنصر تجديد فني.

ويأتي هذا النقاش عن الأدب في الأردن في ظل واقع حرج لحكومة بشر الخصاونة، إثر ارتفاع منسوب الغضب الشعبي ضد سياساتها في رفع الدعم عن المحروقات، الأمر الذي تسبب بإضراب سائقي الشاحنات، وعظّم تحدّي الحكومة التي خرجت للتو من ثوب تعديل طفيف لم يسهم في تطوير شكلها العام، وما أزمة رواية “ميرا” إلا تحدّ جديد، لكنه سينتهي سريعا، واتخذ بحقة كل التدابير، لكن الأزمة في السياسة والاقتصاد والعلاقة بين الحكومة والنواب وتعاظم النقد السياسي الشعبي لها أكثر بلاغة وأثراً.

مقالات ذات صلة