عودة إلى القمة العربية رقم 31

كمال عبد اللطيف

حرير- فاجأني صديق بالقول، إن خطأ ما تسرّب إلى الإعلان الذي خَتَمَت به القمة العربية أعمال دورتها العادية في الجزائر، يومي 1 و2 الشهر الماضي (نوفمبر/تشرين الثاني)، فاعترضت قائلاً: أعرف أن خبراء جامعة الدول العربية يمتلكون قدرة فائقة على إنتاج وثائق القمة بِحِرَفِيَّة عالية، وهم يجتهدون في تحرير إعلانات القمم ومقرّراتها بصورة يصعب أن يتسرّب إليها الخطأ. .. فردّ موضحاً إنه لا يتحدّث عن خطأ جزئي في عبارة أو موقف، إنما الخطأ المقصود يتعلق بصفحات الإعلان التي تُلِيَت نهاية القمة، وجرى توزيعها ونشرها في الإعلام.. ثم أضاف أن الخبراء أعدّوا، كما تكشف ذلك كواليس ما دار في المؤتمر، مقترَحاً بإعلانين، من أجل أن يختار الحاضرون من القادة العرب، أو من كان يمثلهم، الصيغة المناسبة لمقتضياتها، أي الصيغة المناسبة لسياق الوضع العربي العام وشروط انعقاد القمة. وبدل تقديم الوثيقة رقم 2 التي وقع التراضي على بنودها، قُدّمت الصيغة رقم 1 المألوفة في القمم العربية، أي التي تُرضي الحاضرين والغائبين، وتقول كل شيء بالصورة التي لا تقول أي شيء.. وفي هذا الأمر بالذات، من الجهد والفنية في التحرير ما يعجز عنه كبار محترفي الكتابة في عالم السياسة وفنونها. فطلبت منه أن يَدلني على الإعلان الذي لم يُقَدَّم إذا كان في حوزته، حتى لا نصبح مثل أولئك الذين يردِّدون أحكاماً اعتباطية، وحتى لا نضيف مشكلات أخرى إلى القمّة التي نجحت في “لَمِّ شَملِ” عدد من القادة العرب تحت سماء واحدة، تصافحوا مع بعضهم، وناقشوا معضلات مجموعة دولٍ عربية مكسورة الأجنحة. وتابعت كلامي مشيراً إلى صعوبة حصول خطأ كهذا، في مؤسسة القمة وفي دهاليز جامعة الدول العربية رغم شيخوختها. وذَكَّرْتُه بموقفي الإيجابي من المؤتمر، بحكم أن انعقاده، في كل الأحوال، أفضل من عدم انعقاده. أما الإعلان الصادر عنه، فإنه يُمَكِّنُنَا من وثيقة كاشفة لكيفيات تفكير الأنظمة العربية اليوم في أحوالها العامة، كما يقدّم للرأي العام تصوّر المشاركين فيها للراهن العربي في مختلف تحولاته، بأعين وأقلام من يتصدرون أحواله في مختلف أوجُهها، ويعكس تصوُّرهم لمآلات القضية الفلسطينية، كما يكشف مواقفهم من القِوَى الإقليمية، ونظرتهم إلى صور الصراع الجارية في بلدان عربية عديدة وفي مناطق أخرى، فلم يكن بإمكان أحد أن يضع أمامنا معطيات تتعلق بما أشرنا إليه، لولا إعلان القمّة رقم 31.

كان صديقي يريد مواصلة الحديث عن الوثيقة الصَّواب والوثيقة الخطأ، فأوقفته عن ذلك.. وأخبرته بأن الإعلان الصادر عن مؤتمر القمة في الجزائر يكشف، بكثير من الجلاء، استمرار الأوضاع العربية على ما كانت عليه قبله، فلا شيء تغيّر، لا في لَمّ الشّمل، وهو شعار المؤتمر، ولا في المحور الأول من الإعلان المتعلق بالقضية الفلسطينية، حيث لم تصدر، وقد مرّ على انتهاء المؤتمر أكثر من شهر، أية إجراءات تتعلق ببدء العمل بتنفيذ القرارات التي توافق عليها المؤتمرون. وقد استغربت كثيراً كيف يتم التذكير في الإعلان بمركزية القضية الفلسطينية في الحاضر العربي، من دون إشارة إلى العلاقة بين ما جاء في هذا المحور الأول وأفعال التطبيع التي اتسعت، وأصبحت تقبل بمزيد من الحضور الإسرائيلي في المحيط العربي.. كيف تَمّ الحديث عن مركزية القضية الفلسطينية في حاضر عربي، يباشر، وبشجاعة غير معهودة، فتح أبوابه وأسواقه وجامعاته وتظاهراته التجارية والثقافية والفنية للكيان الصهيوني؟ وكيف يبدأ الحديث في إعلان القمّة عن أحوال الفلسطينيين، ويتم الصمت فيه عن عَدْوَى التطبيع المعلن والمنتظر والمسكوت عنه؟

أتصوّر أنه لا يكفي أن يتصدّر محور مركزية القضية الفلسطينية إعلان القمة، ليعبّر عن مواقف الأنظمة من القضية ومن واقع المشروع الوطني الفلسطيني اليوم، وكذا من أسئلة التحرير والمقاومة، وأسئلة مواصلة الاستيطان والعنف.. ونتصوَّر أن الواقع الفعلي للقضية ومآلاتها يرتبط بالبحث في كيفيات مواجهة أشكال الاختراق الإسرائيلي المتواصلة في المشرق والمغرب والخليج العربي، ومركزية القضية الفلسطينية اليوم تستدعي مقاومة التطبيع أولاً.. خاطبت صديقي بعد ذلك: إعلان الجزائر بسكوته عن التطبيع أعلن تخليه عن القضية الفلسطينية، فهل تشير الوثيقة الصواب التي جئت لتحدثني عنها إلى هذا؟ ثم تابعت موضحاً أن بعض العرب اليوم في زمن التباهي بالتطبيع حَوَّلوا الصهاينة في إعلامهم إلى خبراء في السياحة والتطبيب والمخابرات، وتقنيات حراسة الحدود والفضاءات.. وتناسوا أن الصهاينة أحكموا الخناق اليوم على جنين الحكم الذاتي في قطاع غزّة، بمزيد من القمع والعنف والضّم.. ويطمع المطبّعون، القدامى والجدد، بأن تتكفل إسرائيل بالتنسيق مع حليفها الأكبر الولايات المتحدة، لتدبير مسألة حمايتهم من إيران، واستكمال مشروع خطوات “صفقة القرن، مشروع الشرق الأوسط الجديد”.

أما ما جاء في المحور الثاني في الإعلان، في موضوع الراهن العربي والدولي، فقد أبرز أن العرب يجدون اليوم صعوبة كبيرة في التواصل مع الأحداث والمعطيات، التي تقع في العالم بالقرب منهم، بحكم تناقضات عديدة فجّرتها الخرائب والصراعات الحاصلة في مجتمعاتهم. ثم تساءلت: ماذا فعل العرب في سياق الحرب القائمة في أوكرانيا في موضوع إنتاج النفط؟ وماذا فعلوا لوقف النزيف والخراب الذي لحق ببلدانهم؟ إنهم يتابعون ما يجري بين أوروبا وأميركا وروسيا والصين، متناسين أن القِوَى الروسية والأوروبية والأميركية في قلب ديارهم، فهي ترتّب تحولات الوضع العربي أمام أعينهم، ولا نعثر في أَجَندَاتِهِم السياسية، على الحدود الدنيا الضرورية للتنسيق والتشاور فيما بينهم.. ولم تُعَوِّض قمّة الجزائر الثغرات المرتبطة بغياب الحوار والتنسيق، ولا يبدو أن مصير سورية وليبيا واليمن، رغم الفقرات التي خُصِّصت في المحور الثالث من الإعلان للأوضاع العربية، يندرج، اليوم، ضمن أفق تفكيرهم السياسي والاستراتيجي.. ولا يبدو، بعد اجتماع القمّة، أننا سنسمع، اليوم أو غداً، بالإجراءات التي ستعمل على تنفيذ مُقرّرات القمّة التي أعلنت، أو مقرّراتها في الإعلان الصواب الذي تحدّث عنه صديقي ولم يسمع به أحد.

 

مقالات ذات صلة