معوَل التأويل وجدار الديمقراطية الغربية

عمار السواد

حرير- نَقَل الرئيس الأميركي جو بايدن، في وقت سابق، عن نظيره الصيني شي جين بينغ قولَه “إن الديمقراطيات لا يمكن أن تستمر في القرن الحادي والعشرين، الأمورُ تتحرك بسرعة كبيرة… ولا فرصة لمواكبة حكم الفرد”.

ينفرد شِي، ويصبح أولَ زعيم صيني منذ مؤسس الجمهورية الشعبية؛ يقودُ البلاد ثلاثَ دورات، كاسرا قواعد الانتقال السلس داخل الحزب الشيوعي. في المقابل، يمضي بايدن في تأكيد رؤيةِ بلاده على مدى عقود أنها تخوض معركةً من أجل الديمقراطية عالميا. يرى نفسَه أيضاً قائدا لمواجهة داخلية من أجل الديمقراطية. بسبب المخاوف، ابتهج الرئيسُ لنتائج الانتخابات النصفية، رغم أن الديمقراطيين لم يكسبوا الأغلبية. ارتياح بايدن من أن موجة خصومه لم تعْلُ ولن تجرف مستقبلَ قراراتِه، ينسجم مع مخاوفه المعلنة على مُقبلِ الديمقراطية. معنى هذا أن المعركة من أجل الديمقراطية باتت داخل الأسوار الأميركية.

هنا، يتنفس الصعداءَ الكاتبُ الأميركي توماس فريدمان، في مقالٍ بعد الانتخابات النصفية “نظرا إلى الدرجة غير المسبوقة التي ارتفع فيها مستوى إنكار الانتخابات، واعتمادٍ عديدٍ من الأسماء الكبيرة المقلِّدة ترامب على الإنكار أمرا محوريا في حملاتهم، ربما نكون تفادينا أحدَ أكبر السهام التي استهدفت قلبَ ديمقراطيتنا”. يمكن فهمُ هذا بأنه تهويل دعائي وابتزاز للمشاعر في عراك نفوذ بين الحزبين، أو تنافسٍ بين القوى الاقتصادية المنقسمة بينهما، غير أن جانبا منه يعبر عن خوف جاد ساد الخطاب الأميركي، لأن الأحداث في السنوات الماضية عبّدتْ طريقا نحو مخاطرَ حقيقية. ليس الموضوعُ أن الديمقراطيةَ يدافع عنها الحزبُ الحاملُ اسمَها ويرفضها الحزبُ الجمهوري، بل كيف ينظر إليها الجانبان؛ كيف تُفسَّر. يتصارع الجانبان ليس على الديمقراطية، إنما على تأويلِها وتفسيرِ المفاهيم الداعمة لها. حزب بايدن يريد تأصيلَ المتغيرات المجتمعية، كونها تدعم خياراته، والجمهوريون يبتغون إعادةَ النظر في فهمٍ وتفسيراتٍ أدّتْ إلى تغييرات في التركيبة الاجتماعية لا تنسجم مع أيديولوجيتهم، وأعطت فردا من أصول أفريقية فرصة رئاسة البلاد. وحين يضرب معولُ التأويلِ تتفكّك به الأسسُ المُراد تأويلُها.

الانتخابات النصفية كما الرئاسية لم تحسما معركةَ التأويل. آخرُ تقرير نشرَه المعهدُ الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية، ومقره السويد، أدرَج، للعام الثاني على التوالي، الولاياتِ المتحدةَ ضمن سبعة بلدان تواجه تراجعا ديمقراطيا. رأى الأمين العام للمعهد كيفن كاساس زامورا أن حمّى الاستقطاب السياسي والخللَ في المؤسسات وتهديدَ الحريات المدنية في أميركيا لم تنحسر مع وجود الإدارة الحالية والعمليات الانتخابية. ووفقا للتقرير، ليس الخلل أميركيا فقط، فهناك دول أوروبية تعاني من “توجهات مقلقة”. عانت 17 دولة في القارة من تدهور في السنوات الخمس الماضية. الأمر يتطوّر في بيئة قلقة وأزماتٍ اقتصادية وأمنية ومدنية عالمية، ما وضع الديمقراطيةَ الغربية أمام شكٍ في قدرتها على الارتكاز على نظمِها بدون إخضاعها إلى تأويل المفاهيم، كي تتخلص من التحدّيات والضغوط. يزيد من الضغوط وعدمِ اليقين تباينٌ في فهمِ الثوابت الديمقراطية وتطبيقها.

وضعُ “تويتر” وصراعُ مالكه الجديد، البليونير إيلون ماسك، مع خصومه، مِن أهم النقاط الدالة على طبيعة الخلاف في تعريف الديمقراطية. يعلن ماسْك “أن ترامب سيعود إلى تويتر”، ويشدّد من تعقيدات تسمح بتأويلات كثيرة متضاربة. بعد ذلك، يغرّد بـ”ثورة” على الرقابة الإلكترونية في بلاده. مقابل هذا، يغلقُ المفكرُ الأميركي سام هاريس صفحته على “تويتر” رفضا لسياسات ماسك الجديدة، كونها تؤدي إلى جعْل موقع التواصل الاجتماعي هذا منصةً لنشر الأكاذيب لمن وصفه بأنه مجنون على نطاق واسع، فهل هذا خلاف داخل الديمقراطية، أم أنه صراع على إعادة تعريفها؟ البادي من الأمر أنه داخل سقف الديمقراطية، لكننا عميقا قليلا، لن نجده كذلك، بل هو امتداد لمرحلة إرباكٍ ظهرت مع اتهام روسيا بالتلاعب بالانتخابات الأميركية عام 2016، ثم اتهام الرئيس الأميركي السابق خصومه بتزوير اقتراع 2020.

يندرج هذا الوضع ضمن مرحلة مفصلية يشهدها الغرب لإعادة تقييم المفاهيم السائدة وتعريفها: اليمين واليسار، والشعبوية لدى الجانبين، الديمقراطية التمثيلية والتشاركية والاجتماعية والتوافقية… أو مفاهيم ذات صلة بما تعدّه الليبراليةُ الاجتماعية مكاسبَ تاريخيةً مرتبطة بالهجرة والعنصرية والعلاقات الجنسية والإجهاض… وإذا كانت الولايات المتحدة مركز الصراع الحالي، فإن له فروعا ممتدّة في أكثر من بلد غربي. وإذا كان اللغط بشأن الانتخابات الأميركية و”تويتر” وقرارات الحظر في زمن الوباء مؤشرات إلى محنة الديمقراطية ومعارك تفسيرها، فإن السياسات الاقتصادية علامة دالة أخرى على الإرباك.

مثلا، قامت دولٌ غربية عديدة بتجميد الأصول الروسية بدون قرار من مجلس الأمن. قد يفهم الأمر استجابة أخلاقية لمواجهة غزوٍ لا أخلاقي. بتعبير آخر، ربما يفسّر الأمرُ بأنه منسجم مع المفهوم القيمي الذي تعتمده المنظومة السياسية الغربية، إن سلّمنا، جدلا، أن تلك المنظومة لم ترتكب ما يتعارض مع مفاهيمها القيمية. إلا أن مفهوما آخر يفرض نفسَه في هذا المجال يصعب تفسيرُ انسجامِه مع الثوابت الاقتصادية الغربية. تجميدُ أصول الأموال الروسية والتهديدُ باستخدامها في إعمار أوكرانيا، بدون قرار من مجلس الأمن، يتناقض مع ثوابت الليبرالية الاقتصادية الغربية المستندة إلى حرية رأس المال وعدم الاستحواذ عليه ما دام منسجما مع السياق القانوني الاقتصادي وشروط الضريبة. جهودُ الاتحاد الأوروبي لوضع سقف أعلى لسعر الغاز العالمي نموذجٌ آخر على تصدّع المفاهيم الليبرالية الاقتصادية. في بريطانيا مثالٌ ثالث يومَ سعت رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس إلى استعادة ملمح من النيوليبرالية الثاتشرية، أطيح بها بسرعة قياسية وبضربة قاضية.

ولأن الارتباك والارتجال يسودان، لم ينكشفْ، بعدُ، تفسيرُ المتغيرات، لكن أثرَها واضح، ولها في الخلفية التاريخية أولياتٌ. على مدى عقدين، تعرَّضَ الغربُ إلى هزّات متتالية. في عام 2005، أطلّ الرئيسُ الفرنسي آنذاك جاك شيراك مبتهجا “لقد اتخذت فرنسا قرارها ديمقراطيا” تعليقا على رفَضَ غالبيةِ مصوّتي شعبِه، إلى جانب الدنماركيين والهولنديين، مشروع الدستور الأوروبي. بعد عامين، أبرَم قادةُ الاتحاد معاهدة لشبونة، متضمّنةً جلّ مواد الدستور المرفوض. تلاعَب الساسةُ بالآليات المتفق عليها، ما عمّق من عدم اليقين تجاه الديمقراطية التمثيلية. وظهر جانب كبيرٌ من تراجع الثقة مع اندلاع حركة السترات الصفراء عام 2018 ولم تتوقف سوى مع اجتياح الجائحة أوروبا، يضاف إلى ذلك تمرّدُ بولندا والمجر وإيطاليا وإسبانيا الرافضة استفتاء كتالونيا، على كثير من متطلبات الاتحاد.

لفقدانُ الثقة تفسيرٌ جوهري سمّاه ميشيل فوكو “المطالبة بالوفاء”. الفيلسوفُ الفرنسي، في مقال “من أجل أخلاق اللارفاهية” لمجلةِ L’Obs (المراقب الجديد) عام 1979، مانَعَ القولَ إن الزمن ثابتٌ والفكرَ يتحرّك. كأنه رأى العكس، أن المفاهيم صارت عاجزةً عن ملاحقة المتغيرات؛ لذا أشار إلى لحظات تغيير لا نشعر بها تكشفُ عن القطائع، وعن الصراع بين الهوية والأوامر القانونية أو الأيديولوجية “مطلب الهوية والأوامر القاطعة يعانيان معا من الغلو. والفترات التي يسودها ماض كبير ـ الحروب، المقاومات، الثورات ـ هي بالأحرى تطالب بالوفاء”.

عدم الوفاء، لقصور أو خداع، أزمةٌ في كل العصور. الآن يأخذ قسطَه غربياً بإحكام الريبةِ وسط المخاوفِ الاقتصادية والانقسامات المجتمعية. في هذا الصدد، يبدو ترامب أقربَ لجمهوره من بايدن لناخبيه. الرئيس السابق لا يعِدُ بتحوّلات اقتصادية سريعة، بل يغذّي نزعة الانقسامات، منتصرا لطرف مقابل آخر عبر تشديد شعور بأن الولايات المتحدة لم تعد عظيمة بسبب الهجرة واليسار والتحالفات الدولية المكلفة ماليا … إنه يغيّر الأولويات ويتحدّث بأشياء لا يمكن قياسُ الناجح فيها من المخفِق، بل تكرّسُ الاندفاعةَ الشعبوية نفسَها التي أخرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. يعتمد ترامب بمهارة على محاكاة العواطف لدى شرائح أميركية، كي لا يتعهد بشيء مما تحتاجه، مكتفيا بالتزاماتٍ تمثل رغبات عرقيةً وشعبوية لديه أو لدى شريحة من أتباعه. حتى في مديحِه المتكرر لبوتين، يُبرز نزعاتِه غيرَ الفرحة بالديمقراطية لصالح حكم الفرد. هو يمتهن الإطراءَ للرئيس الروسي، حتى في مناغمة مشاعر كراهية المهاجرين القادمين من المكسيك، عندما لمّح إلى أن على البيت الأبيض استخدامَ تكتيك الكرملين ضم مناطق من شرقي أوكرانيا مع الحدود الجنوبية لوقف الهجرة.

أظن أن جوهر أسباب هذا الوضع تغوّلُ مفاهيمَ بديلةٍ غيرِ مفكّر بها، ارتجاليةٍ، مشوَّشة ومربِكة. استجابةً لما يتغوّل، تبدأ لعبة التأويل والقفز قبولاً بالشروط الداخلية المتغيرة. طويلا، اعتقدت السلطات المهيمنة، السياسية أو الأكاديمية أو الاقتصادية… أن الثوابت الديمقراطية السائدة أقوى من الزمن، وهذا خطأ كارثي فسَحَ المجالَ أمام التفكير الشعبوي كي يخوض غمارَ تغيير المفاهيم، لتضطر تلك السلطات، إثر ذلك، إلى تأويل ما تمتلك من مفاهيم بدلا من القيام بمراجعة جريئة تمسّ قطاعاتها كافة، وتقف على الأخطاء التاريخية والحالية التي بقيت بدون فهم أسبابها الحقيقية، واكتفي بنسبتها إلى أشخاص. في النهاية، ها هي الديمقراطية بعد قرون من التأسيس سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وبالطبع فلسفيا، تواجه ارتيابا مخلِّا يلوح كما لو أنه شكوكُ بلدان يحكمها جنرالات أو تديرها ثيوقراطية.

 

مقالات ذات صلة